Search from the table of contents of 2.5 million books
Advanced Search (Beta)
Home > الأدب القرآني عند مصطفی صادق الرافعي > البــاب الثالث: دراسة الأدب القراني الكريم في آثار مصطفی صادق الرافعي

الأدب القرآني عند مصطفی صادق الرافعي |
Asian Research Index
الأدب القرآني عند مصطفی صادق الرافعي

البــاب الثالث: دراسة الأدب القراني الكريم في آثار مصطفی صادق الرافعي
ARI Id

1683034285969_56115635

Access

Open/Free Access

Pages

105

الفصــل الأول: اعجاز القرآن وبلاغة النبوية

أن الألفاظ القران منزلة بحروفها ونسقها والابطل الاعجاز لأن الاعجاز لا يكون انسانيا وقد كان الوحي ينزل علي النبي صلي الله عليه وسلم فتعتريه حالة روحية وردت صفتها في البخاري و غيره.

قال سعد باشا زغلول في رسالته الذي كتب إلی الرافعي عن تقريظ كتاب اعجاز القران:

تحدي القران أهل البيان في عبارت قارعة محرجة ، ولهجة واخزة مرغمة أن يأتو بمثله أو سورة منه ، فما فعلوا ، ولو قدروا ماتأخروا لشدةحرصهم علي تكذيبهم و معارضته بكل ما ملكت أيمانهم واتسع له امكانهم ،هذا العجز الوضيع بعد ذاك التحدي الصارخ هو أثر تلك القدرة الفائقة ، وهذا السكون الذليل بعد ذاك الاستفزاز الشامخ هو أثر ذلك الكلام العزيز فجاءكتابكم ’’اعجاز القران ‘‘مصدقا لاياتها مكذبا لانكارهم وأيد بلاغة القران واعجازها بأدلة مشتقة من أسرارها في بيان مستمد من روحها ’’كانه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم‘‘([1])

وقال أيضاً عن تقريظ اعجاز القران والبلاغة النبوية شبَّه فيه أسلوب المؤلف بالتنزيل الحكيم، وهو تشبيه يصور حقيقة كبيرة، فإن الرافعي يتأثر في نثره العبارة القرآنية في بلاغتها وسموها.([2]) أن القرآن معجزة هذه في بلاغة نظمه واتساق أوضاعه وأسراره، فمن ثم كانت مادة الاتصال في نسق التإلیف بين هذا الجزء والذي قبله. القرآن الكريم مما يتعلق بلغته ويتصل ببلاغته ويكشف عن أوجه الإعجاز في ذلك، لا ننفذ في غير سبب لما نحن بسبيله، ولا نذهب في الكلام عن نتيجة من نتائجه. ولقد أراد الله أن لا تضعف قوة هذا الكتاب، وأن لا يكون في أمره على تقادم الزمن خَضغ أو تَطامن، فجاءت هذه القوة فيه بأسبابها المختلفة على مقدار ما أراد، وهي قوة الخلودالأرضي التي خرج بها القرآن مخرج الشذوذ الطبيعي، فلا سبيل عليه ليد الزمن وحوادثه مما تُبليه أو تستجدُّه، إنما هو روحٌ من أمر الله تعالى هو نزله وهو يحفظه، وقد قال سبحانه وتعالی:

 ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ([3]) .

 يذهب الرافعي إلى أن القرآن معجز بالمعنى الذي يفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه، حين ينفي الإمكان بالمعجز عن غير الممكن، فهو- أي القرآن- لا تبلغ منه الفطرة الإنسانية مبلغا، وليس إلى ذلك مأتى ولا جهة، وإنما هو أثر كغيره من الآثار الإلهية، يشاركها في إعجاز الصنعة وهيئة الوضع، وينفرد عنها بأن له مادة من الألفاظ كأنها مفرّغة إفراغا من ذوب تلك المواد كلها([4])

فقد كتب العديد من العلماء المصريين في إعجاز القرآن كالرافعي ومتولي الشعراوي۔

 أما رأي مصطفى صادق الرافعي في كتابه "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية" فيوجزه في ثلاث نقاط: فالقرآن معجز لاستقرار القرآن وثباته على الزمان، وهو شريعة وأخبار وآداب، ولدفعه النسيان عن اللغة العربية، فهو وجود لغوي ركب كل ما فيه على أن يبقى خالدًا مع الإنسانية: يدفع عن هذه اللغة العربية النسيان الذي لا يدفع عن شيء؛ ولأن معانيه تتوالد وتتكاثر، وتتجدد حسب قدرته على كل عصر في استخلاص معانيه".([5]) بَيدَ أنه لا بد لنا من صدر نبتدئ به القولَ في تاريخه وجمعه وتدوينه وقراءته واعجازه حتى تكون هذه سبباً إلى الكلام في لغته وبلاغته، ثم إعجازه في اللغة والبلاغة.  الان أولا و بداية نقدم تلخيص كتاب اعجاز القرآن والبلاغة النبوية لمصطفى صادق الرافعي و محتوياته كما يلی:

الكتاب الأول : الفصل الأول : تاريخ القُرآن (جمعُه وتدوينه(

أنزل هذا القرآن مُنَجماً في بضع وعشرين سنة، فربما نزلت الآية المفردة، وربما نزلت آيات عدة إلى عشر، كما صح عن أهل الحديثوقد كان ابتداء الوحي في سنة 611 للميلاد بمكة، ثم هاجر منها النبي -صلي الله عليه وسلم-في سنة 622 إلى المدينة، فنزل القرآن مكياً ومدنياً. وقد اختلفت الروايات في آخر آية نزلت وتاريخ نزولها وفي بعضها أن ذلك كان قبل موته  بأحد وثمانين يوماً، في سنة إحدى عشرة للهجرة (وعن كتابه فقدأجمعوا على نفر، منهم: علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود.(وقد أسفر ذلك عن وجود ثلاثة مصاحفمصحف ابن مسعود، ومصحف أبي، ومصحف زيد، وكلهم قَرَأ القرآن وعَرَضه على النبي صلي الله عليه وسلم، فأما ابن مسعود فقرأ بمكة وعرض هناك، وأما أبي فإنه قرأ بعد الهجرة وعرض في ذلك الوقت، وأما زيد فقرأه بعدهما وكان عرضه متأخراً عن الجميع، وهو آخر العرض إذ كان في سنة وفاته وبقراءته كان يقرأ عليه الصلاة والسلام وكان يصلي إلى أن لحق بربه.

وبالنسبة إلی الفتوحات رصد حذيفة بن إلیمان أن فصيلا من المسلمين الجدد يقرأ القرآن بلحون غير لحون العرب ففزع إلى أبي بكر فأجمعوا أمرهم أن ينتسخوا الصحفَ الأولى التي كانت عند أبي بكر، وأن يأخذوا الناس بها ويجمعوهم عليها ، فأرسل عثمان إلى حفصة فبعثت إلیه بتلك الصحف، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت، وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فامرهم أن ينسخوها في المصاحف ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة: ما اختلفتم فيه أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش فإنه بلسانهم. ثم بعث في كل أفق بمصر من تلك المصاحف، وكانت سبعة - في قول مشهور – فأرسل منها إلى مكة، والشام، وإلیمن، والبحرين، والبصرة، والكوفة. وحبس بالمدينة واحداً، وهو مصحفه الذي يسمى الإمام ثم أمر بما عدا ذلك من صحيفة أو مصحف أن يحرق، ولم يجعل في عزيمته تلك رخصة سائغة لأحد. وكان جمع عثمان في سنة 25 للهجرة.

القراءة وطرق الأداء

روي عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقانَ في حياة رسول الله صلي الله عليه وسلم -، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنِيها رسول الله – صلي الله عليه وسلم -كذلك، فكدت أساوره في الصلاة فصبرت حتى سلَّم، فلما سلَّم لبَّبته بردائه فقلت. مَن أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؛ قال: أقرأنيها رسول الله– صلي الله عليه وسلم -، فقلت: كذبت، فوالله إن رسول الله – صلي الله عليه وسلم -لهو أقرأني هذه السورة. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله – صلي الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان. فقال رسول الله جتَ: " اقرأ يا هشام "، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها، فقال: " هكذا نزلت "، ثم قال: " اقرأ يا عمر "، فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله لمجم، فقال: " هكذا نزلت "، ثم قال: " إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منها ". هذا حين كان الاختلاف مما تقتضيه الفطرة اللغوية ومذاهبها، فلما انتَفَضت هذه الفطرة، واختبلت الألسنة بعد اتساع الفتوح، وانسياح العرب في الأقطار، ومخالطتهم الأعاجمَ - لمَ يعد لذلك الاختلاف وجه يتصل بحكمة من الرأي، بل صار كأنه دُرْبةَ لإفساد هذا الأمر واختلاف المادة نفسها على وجه يُنكرُ من حقيقتها بما يضيفُ إلیها أو يخلط بها أو يغير منها، وإلى هذا نظر رسول الله – صلي الله عليه وسلم - حين عرض عليه القرآنُ العرضةَ الأخيرة، وما كان يعلم أنها الأخيرة لولا ما علمه الله، فاختار قراءة زيد بن ثابت صاحب هذه العرضة، وبها كان يقرأ وكان يصلي  إلى أن انتقل إلى جوار ربه. ومن ثم اختارها المسلمون بعده وكتبوا القرآن عليها زمن أبي بكر كما مر، ثم تركوا لناس أسانيدهم، إذ كانت الفطرة سليمة بعد. فلما كانت الطيرة والاختلاف لعهد عثمان، وأشفقوا من الضلال في معَاسف الرأي ومعاني حملوا الناسَ عليها حملاً وكتبوا بها المصاحف .

القراء

يرجعُ عهد القراء الذين أقاموا الناسَ على طرائقهم في التلاوة إلى عهد الصحابة -رضي الله عنه-، فقد اشتهر بالإقراء منهم سبعة: عثمان، وعلي، وأبي، وزيدُ بن ثابت، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري؛ وعنهم أخذ كثير من الصحابة والتابعين في الأمصار، وكلهم يُسنِدُ إلى رسول اللهصلي الله عليه وسلم-  . فلما كانت أواخر عهد التابعين في المائة الأولى تجرد قوم واعتنَوا بضبط القراءة أتم عناية، لِما رأوا من المساسِ إلى ذلك بعد اضطراب السَّلائق، وجعلوها علماً، كما فعلوا يومئذ بالحديث والتفسير، فكانوا فيها الأئمة الذين يُرحَلُ إلیهم ويؤخَذُ عنهم؛ ثم اشتهر منهم ومن الطبقة التي تَلتهُم أولئك الأئمة السبعة الذين تُنسبُ إلیهم القراءات إلى اليوم، وهم: أبو عمرو بن العلاء شيخُ الرُّواة المتوفى سنة 154 هـ، وعبد الله بن كثير المتوفى سنة 120 هـ،ونافعُ بن نعيم المتوفى سنة 169 هـ، وعبد الله بن عامر إلیحصُبي المتوفى سنة 118 هـ، وعاصمُ بنُ بَهدَلة الأسَدي المتوفى سنة 128 هـ، وحمزةُ بن حبيب الزيات العِجلي المتوفى سنة 156 هـ، وعلي بن حمزة الكِسائي إمام النحاة الكوفيين المتوفى سنة 189 هـ. وقراءات هؤلاء السبع هي المتفقُ عليها إجماعاً، ولكل منهم سَنَد في روايته، وطريق الرواية عنه؛ وكل ذلك محفوظ مثبَت في كتب هذا العلم. والعلماءُ على أن القراءات متواترة وآحاذ وشاذة. وجعلوا المتواتر السبع والأحادَ الثلاثَ المتممةَ لعشرها ثم ما يكون من قراءات الصحابة – رضي الله عنهم مما لا يوافق ذلك. وما بقي فهو شاذ. مُجمعاً عليه أم مختلفاً فيه اختلافاً لا يضر مثلُه؛ لأن القراءة سنة متبَعة، يلزم قبولُها؛ والمصير إلیها بالإسناد لا بالرأي، ثم يشترط في تلك القراءة أن توافق أحدَ المصاحف العثمانية ولو احتمالا وأن تكون مع ذلك صحيحة الإسناد، فإن اجتمعت الأركان الثلاثة: موافقة العربية، ورسم المصحف، وصحة السند؛ فتلك هي القراءة الصحيحة۔

قراءة التَلحِيْن

ومما ابتدع في القراءة والأداء، هذا التلحين الذي بقيَ إلى اليوم يتناقله المفتونةُ قلوبُهم وقلوبُ من يعجبهم شأنهم، ويقرأون به على ما يشبه الإقناع وهو الغناء ومن أنواعه عندهم في أقسام النغم (الترعيد) وهو أن يرعد القارئ صوته، قالوا كأنه يرعَد من البرد (والترقيص) وهو أن يروم السكوتَ على الساكن ثم ينقر مع الحركة كأنه في عدو هَرولة؛ (والتطريب) وهو أن يترنم بالقرآن ويتنغمَ به فيمد في غير مواضع المد ويزيد في المد ما أصاب موضعه، (والتحزين) وهو أن يأتي بالقراءة على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوعا ثم (الترديد) وهو رد الجماعة على القارئ في ختام قراءته بلحن واحد على وجه من تلك الوجوه. فلما كانت المائة الثانية كان أول من قام بالتلحين والتطنين عبيدَ الله بن بَكرة، وكانت قراءته حزنا ليس على شيء من ألحان الغناء والحداء، فورث ذلك عنه حفيده عبد الله بن عمر بن عبيد الله، فهو الذي يقال له قراءة ابن عمرة وأخذها عنه الإباضي، ثم أخذ سعيد بن العلاف وأخوه عن الإباضي، وصار سعيد رأس هذا القراءة في زمنه وعرفت به، لأنه اتصل بالرشيد فأعجب بقراءته وكان يحظيه ويعطيه حتى عرف بين الناس بقارئ أمير المؤمنين. وكان في الصحابة والتابعين رضوان الله تعإلی عليهم أجمعين من يحكم القراءة على أحسن وجوهها ويؤديها بأفصح مخرج وأسراه، فكأنما يسمع منه القرآنَ غضاً طَرَياً، لفصاحته وعذوبة منطقه وانتظام نَبراته، وهو لحن اللغة  نفسها في طبيعتها لا لحن القراءة في الصناعة، على أن كثيراً من العرب كانوا يقرأون القرآن ولا يعفون ألسنتهم مما اعتادته في هيئة إنشاد الشعر، مما لا يحل بالأداء، ولكنه يعطي القراءة شبهاً من الإنشاد قريباً، لتمكن ذلك منهم وانطباع الأوزان في الفطرة، حتى قيل في بعضهم: إنه يقرأ القرآن كأه رَجز الأعراب. وهذا عندنا هو الأصل فيما فشا بعد ذلك من الخروج عن هيئة الإنشاد إلى هيئة التلحين. وبالجملة فإن التعبد بفهم معاني القرآن في وزن التعبد بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءةِ المتصلةِ بالنبي – صلي الله عليه وسلم -وقد عد العلماء القراءة بغير هذا التجويد لحناً خفياً.

لغة القرآن

الأصلُ فيمن نزل القرآن بلغتهم، قريش القرآن بلغة قريش، لأن رسول اللهصلي الله عليه وسلم - قُريشي، ثم ليكون هذا الكلام زعيمَ اللغات كلها كما استمازت قريش من العرب بجوار البيت، وسقاية الحاج، وعمارةِ  المسجد الحرام، وغيرها من خصائصهم وهذه حكمة بالغة في سياسة أولئك الجفاة وتألفهم وضم نشرهم، فإن هذا القرآن لو لم يكن بلسان قريش ما اجتمع له العرب ألبتة ولو كانت بلاغته مما يميت ويحيي وههنا أصل آخر، وهو أن القرآن لو نزل بغير ما ألفَه النبيصلي الله عليه وسلم - من اللغة القرشية وما اتصل بها، كان ذلك مَغمزاً فيه، إذ لا تستقيم لهم المقابلة حينئذ بين القرآن وأسإلیبه، وبين ما يأثرونه من كلام النبيصلي الله عليه وسلم - فيهون ذلك على قريش، ثم على العرب، فيجدون لكل قبيلة مذهباً من القول فيه، فتنشق الكلمة، ثم يصير الأمر من العصبية والمشاحنة والبغضاء إلى حال لا يلتئم عليه أبداً (والحقيقة أن) إعجازه  أن يأتيهم بأفصح ما تنتهي إلیه لغات العرب جميعاً، وإنما سبيل ذلك من لغة قريش. وهذه اللغات وإن اختلفت في اللحن والاستعمال، إلا أنها تتفق في المعنى الذي من أجله صار العرب جميعاً يخشعون للفصاحة من أي قبيل جاءتهم. أما اللغات التي نزل بها القرآن غير لغة قريش، فهي لغة بني سعد بن بكر الذين كان النبيصلي الله عليه وسلم - مُسترضعاً فيهم، وهي إحدى لغات العجُز، من هوازن، ثم سائر هذه اللغات وهي جُشمُ بن بكر، ونصرُ بن معاوية وثقيف، وتلك هي أفصح لغات العرب جملة، ثم خزاعة، وهذيل، وكنانة، وأسَد وضئة، وكانوا على قرب من مكة يكثرون التردد إلیها ومن بعدهم قيس وألفافُها التي في وسط الجزيرة. قال بعض العلماء: وقد كانت في القرآن ألفاظ من لغات أخرى كقوله: (لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ) أي لا ينقصكم بلغة بني عبس ولقد ائتلفت لغة القرآن الكريم على وجه يستطيع العرب أن يقرأوه بلحونهم وإن اختلفت وتناقضت؛ ثم بقي مع ذلك على فصاحته وخلوصه. لأن هذه الفصاحة هي في الوضع التركيبي.

الأحرف السبعة

روى أهل الأثر حديثاً عن رسول اللهصلي الله عليه وسلم - وهو قوله: " أنزلَ القرآنُ على سبعة أحرف، لكل منها ظَهرٌ وبَطن، ولكل حرف حَد، ولكل حد مطلَع " ثم اختلفوا في تأويله وفي تفسير هذا الأحرف ولكن  الأكثرين على أنها سبعُ لغات من لغات قريش وألفافها من ظواهر مكة إلى قيس. وقال بعض العلماء: إني تدبرت الوجوه التي تختلف بها لغاتُ العرب فوجدتها على سبعة، أنحاء لا تزيد ولا تنقص، وبجميع ذلك نزل القرآن: الوجه الأول إبدالُ لفظ بلفظ: كالحوت بالسمك وبالعكس، وكالعهن المنفوش قرأها ابن مسعود: كالصوف المنفوش، والثاني إبدال حرف بحرف كالتابوت والتابوه –

 وقد مَر بك أنها كانت كتابة زيد بن ثابت حتى غيَّرها عثمان – رضي الله عنه - والثالث تقديم وتأخير، إما في الكلمة، نحو: سُلِبَ زيد ثَوبهُ وسُلِب ثوبُ زيد. وإما في الحرف، نحو: أفلم ييأس وأفلم يايس؛ والرابع زيادةُ حرف أو نقصانه، نحو: مإلیه وسلطانيَه، فلا تَكُ في مِريَة؛ والخامس اختلاف حركات البناء، نحو: فلا تحسبن (بفتح السين وكسرها) ، والسادس اختلافُ الإعراب، نحو: " ما هذا بشراً "، وقرأ ابن مسعود بالرفع، والسابع التفخيم والإمالة، وهذا اختلاف في اللحن والتزيين لا في نفس اللغة، والتفخيم أعلى وأشهر عند فصحاء العرب قال: فهذه الوجوه السبعة التي بها اختلفت لغاتُ العرب قد أنزل الله باختلافها القرآن متفرقاً فيه، ليعلم بذلك أن من زَل عن ظاهر التلاوة بمثله أو من تعذر عليه تركُ عادته (اللغوية) فخرج إلى نحو مما قد نزلَ به فليسَ بمَلوم ولا معاقَب عليه؛ وكل هذا فيما إذا لم يختلف في المعانى.

وهو قول حسن يحمل به الحديث على معنى القراءات التي هي في الأصل فروق لغوية، وإن كان بعض الأحرف قد قرئ بسبعة أوجه وبعشرة، نحو: (مالك يوم الدين) و (عَبْدَ الطاغوت) والذي عندنا في معنى الحديث: أن المراد بالأحرف اللغات التي تختلف بها لهجات العرب، حتى يوسع على كل قوم أن يقرؤوه بلحنهم، وما كان العرب يفهمون من معنى الحرف في الكلام إلا اللغة، وإنما جعلها سبعة رمزاً إلى ما ألفوه من معنى الكمال في هذا العدد، وخاصة فيما يتعلق بالإلهيات: كالسموات السبع، والأرضين السبع، والسبعةِ الأيام التي بُرئت فيها الخليقةُ وأبواب الجنة والجحيم، ونحوها، فهذه حدود تحتوي ما وراءها بالغاً ما بلغ؛ وهذا الرمزُ من ألطف المعاني وأدقها: إذ يجعل القرآن في لغته وتركيبه كأنه حدودٌ وأبوابٌ لكلام العرب

مفردات القرآن

وفي القرآن ألفاظ اصطلح العلماء على تسميتها بالغرائب؛ وليس المراد بغرابتها أنها مُنكرة أو نافِرة أو شاذة، فإن القرآن منزه عن هذا جميعه، وإنما اللفظة الغريبة ههنا هي التي تكون حسنة مستغربَة في التأويل؛ بحيث لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس. وجملة ما عدوه من ذلك في القرآن كله: سبعمائة لفظة أو تزيد قليلاً؛ جميعها روي تفسيره بالسند الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه وهو ذلك المعجم اللغوي الحي الذي كانوا يرجعون إلیه، كان رحمه الله يقول: الشعر ديوانُ العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه. ومنشأ الغرابة فيما عدوه من الغريب أن يكون ذلك من لغات متفرقة، أو تكون مستعملة على وجه من وجوه الوضع يخرجها مُخرَجَ الغريب: كالظلم، والكفر، والإيمان، ونحوها مما نقل عن مدلوله في لغة العرب إلى المعاني الإسلامية المحدَثة، أو يكون سياق الألفاظ، قد دل بالقرينة على معنى معين غير الذي يُفهم من ذات الألفاظ، كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾([6]) . أي فإذا بيناه فاعمل به. وكذلك عد العلماء في القرآن من غير لغات العرب أكثر من مائة لفظة، ترجع إلى لغات الفرس والروم والنبط والحبشة والبربر والسريان والعبران والقِبط، وهي كلمات أخرجتها العرب لى أوزان لغتها وأجرتها في فصيحها فصارت بذلك عربية، وإنما وردت في القرآن لأنه لا يسد مسدها إلا أن توضع لمعانيها ألفاظ جديدة على طريقة الأول، فيكون قد خاطب العرب بما لم يوقفهم عليه، وما لا يدركون بفطرتهم اللغوية وجه التصرف فيه، وليس ذلك مما يستقيم به أمر ولا هو عند العرب من معاني الإعجاز في شيء، لأن الوضع يعجز أهله، وهم كانوا أهل اللغة.

تأثير القرآن في اللغة

نزل القرآن الكريم بهذه اللغة على نمط يعجز قليله وكثيره معاً، فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه، إذ النور جملة واحدة وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته، وهو في كل جزء من أجزائه وفي أجزائه جملة لا يعارض بشيء إلا إذا خلقت سماء غير السماء، وبدلت الأرض غير الأرض، وإنما كان ذلك لأنه صفى اللغة من أكدارها، وأجزاها في ظاهرها على بواطن أسرارها. ثم هو بما تناول بها من المعاني الدقيقة التي أبرزها في جلال الإعجاز، وصوَّرها الحقيقة وأنطقها بالمجاز، وما ركبها به من المطاوعة في تقلب الأسإلیب، وتحول التراكيب إلى التراكيب، قد أظهرها مظهراً لايقضى العجب منه، لأنه جلاها على التاريخ كله لا على جيل العرب بخاصته . ومن المعلوم بالضرورة أن القرآن قد جمع أولئك العربَ على لغة واحدة، بما استجمع فيها من محاسن هذه الفطرة اللغوية التي جعلت أهلَ كل لسان يأخذون بها ولا يجدون لهم عنها مَرغَباً، إذ يرونها كمالاً لما في أنفسهم من أصول تلك الفطرة البيانية، مما وقفوا على حد الرغبة فيه من مذاهبها دون أن يقفوا على سبيل القدرة عليه. ومن شأن الكمال المطلوب إذا هو اتفق في شيء من الأشياء - كهذا الكمال البياني في القرآن - أن يَجمع عليه طالبيه مهما فرقت بينهم الأسبابُ المتباينة، والصفات المتعادية؛ ولولا ذلك ما سهل أن تنقاد الجماعات في أصل تكوينها منذ البدء انقياداً يكون عنه هذا الأثر الوراثي في طاعة الأمم لشرائعها؛ ثم لملوكها وأمرائها، مع ما تُسام. لأمة لذلك في باب من أبواب الإمرَةِ والحكم والتسلط، كما أن من شأن النقصِ إذا تمثل في شيء أن يزيد في تفريق من يفترقون عنه إذا توهموه، حتى تتسعَ بينه وبينهم الغاية. كان رسول الله – صلي الله عليه وسلم - مع أنه أفصح ذي لسان وأبلغُ ذي لبٍّ، لا يقاس كلامه بالقرآن، ولا يقع منه إلا كما يقع سائر الكلام، مع أنه بين كلام الناس الغاية التي ليس بعدها ما يقال فيه إنه بعدهاوضح لك أنه لولا القرآن وأسراره البيانية ما اجتمع العرب على لغته، ولو لم يجتمعوا لتبدَّلت لغاتهم بالاختلاط الذي وقع ولم يكن منه بد، حتى تنتقض الفطرة وتختبل الطباع، ثم يكون مصير هذه اللغات إلى العفاء لا محالة، إذ لا يخلفهم عليها إلا من هو أشد منهم اختلاطاً وأكثرُ فساداً، وهكذا يتسلسل الأمر حتى تستبهِم العربية فلا تبِين - وهي أفصح اللغات- إلا بضرب من إشارة الآثار، وتنزل منزلة هذا (الهيروغليف) الذي قبره المصريون في الأحجارِ وأحيَته هذه الأحجار. وذلك، معنى من أبين معاني الإعجاز، إذ لا تجده اتفق في لغة من لغات الأرض غير العربية، وهو لم يتفق لها إلا بالقرآن، ولقد كان أسلوبه البياني الذي جمع له العرب هو الذي اقتضى ما أحدثه العلماء بعد ذلك من تتبع اللغات وتدوينها ورواية شواهدها، والتحفُلِ لها؛ فكان صنيعهم صلة بين اللغة وبين العلوم التي أفرغت عليها من بعد، لأن لغة من اللغات لا تحيا ولا تموت إلا بحسب اتصالها بمادة العلم الذي به حياة أهلها وموتهم، وهي لا يلبسها العلم إلا إذا كانت قشيبة محكمة، لا تضيق عن أنواعه وفروعه ولا يخلقها الاستعمال.وإنما شباب هذه الحياة اللغوية أن تكون اللغة لينة شديدة كما يكون كمال الإنسان بقوة الخلق والخلق: وهذا وجه لو لم يقمها عليه القرآن لما استقامت أبداً، ولا وقفت على طريقه، ولا تلاقى فيه آخرها باولها، لما أومأنا إلیه. ويبقى وجه آخر من تأثير القرآن في اللغة، وهو إقامة أدائها على الوجه الذي نطقوا به، وتيسير ذلك لأهلها في كل عصر، وإن ضعفت الأصول واضطربت الفروع، بحيث لولا هذا الكتاب الكريم لما وجد على الأرض أسود ولا أحمر يعرف اليوم ولا قبل اليوم كيف كانت تنطق العرب بألسنتها وكيف تقيم أحرفها وتحقق مخارجها. وهذا أمر يكون في ذهابه ذهاب البيان العربي جملتِه أو عامته، لأن مبناه على أجراس الحروف واتساقها، ومداره على الوجه الذي تؤدى به الألفاظ، وأنت قد ترى الضعفاء الذين لا يحكِمون منطقَهم وما يصنعون بالأسإلیب المدمَجة والفِقر المتوثقة إذا هم تعاطوها فنطقوا بها، حتى ليصير معهم أجود الكلام في جزالته وقوة أسرِه وصلابة معجمِهِ إلى الفسولة والضعفِ، وإلى البرد والغثاثةِ، كأنما يموت في ألسنتهم موتاً لا رحمة فيه. لا جَرَم أن اللغة التي يذهب منها ذلك لا ينطق بها إلا على الحكاية السقيمة، ولا جرم أن بعض السقم يدفع إلى بعضه، وأن جملة ذلك تفضي إلى الموت۔

الجنسيَّة العربية في القرآن

القرآن تنزلَ من العرب منزلة الفطرة اللغوية التي يساهم فيها كل عربي بمقدار ما تهيأ له من أسبابها الطبيعية، إذ كان بما احتواه من الأسإلیب، وما تناوله من أصول الكمال اللغوي، وما دار عليه من وجوه الوضع البياني - قد هَتَك الحوائل ومحا الفرق التي تبين قرائح العرب اللغوية بعضها من بعض، فاجتمعت منه على الكمال الذي كانت تتخيله ولا تألو عما يدنيها إلیه معالجة واكتساباً؛ ولو أنهم تمالأوا طوالَ الدهر على أن يهذبوا من لغتهم ليبلغوا بها مبلغ الكمال الوضعي، على النحو الذي جاء به القرآن، لما ازدادوا إلا تعادياً في الرأي؛ وتباعداً عما يجنحون إلیه إذ تنزع كل فطرة إلى منزعها في كل قبيل، فيزيد الناقص منهم نقصاً فطرياً وهو يحسبه كمالاً. تلك سياسة هذا القرآن: جمع العرب لمذهب الأقدار وتصاريف التاريخ. رأى ألسنتهم تقود أرواحهم، فقادهم من ألسنتهم وبذلك نزل منهم منزلة الفطرة الغالبة التي تستبد بالتكوين العقلي في كل أمة. فتجعل الأمة كأنما تحمل من هذا العقل مفتاحَ الباب الذي تلج منه إلى مستقبلها. ولعمرك ما العرب وما غير العرب من الشعوب البادية إلا بطونهم، حتى لأحسبهم إذا اجتمعوا كانوا معدة الأرض. وكان أهل السَّرف في فنون الملاذ من الحضريين أمعاءها. وما أظن مرجع ذلك إلى غير القرآن، بل أنا مستبصر في صحة هذا المعنى، مستيقن أنه مذهب التعليل إلى الحقيقة بعينها؛ لأن القرآن هو صفي تلك الطباع، وصقل جوانب الروح العربية، حتى صارت المعاني الإلهية تتراءى فيها وكأنها عن معاينة. فكأنما كان العرب يقطعون الأرض في فتوحهم ليبلغوا طرفاً من أطراف السماء فينفذوا إلى ما وعدهم الله ويتصلوا بما أعد لهم. القرآن الكريم، فهو قد سفه أحلام العرب، وخلع آلهتهم، وقمع طغيانهم، واشتد عليهم بالله محضاً بعد اللين ممزوجاً، حتى جعلت وإؤهم كأنما ترقرق في بعض آياته، ثم لم يهدأ عنهم، ردد ذلك وكرره، وعمهم به، وأرسله في كل وجه، وقرع أنوفهم؛ وهاج منهم حمية الجاهل: وجاراهم في مضمار المخاطرة، وإلى حد المقارعة على عزة العشيرة وكثرة الحصى؛ وهم الذين كانت لهم كل هتفة كأن الأرواح هواة في صوتها، فلا يهتف بها حتى تنهض الأجسام لموتها، تسيرُ على الأرض بالرجال، حتى تطير إلى السماء بالآجال؛ ثم لم يمنعهم ذلك وما إلى ذلك أن ينقادوا ثم ينقادوا! . فالقرآن الكريم بتمكنه من فطرة العرب على وجهه المعجز، قد نزل منهم منزلةَ الزمان في عمله وآثاره، لأن الذي أنزله بعلمه وقدره بحكمته إنما هو خالقُ الزمن نفسه، فهدم في نفوس العرب، وكان هدمه بناء جديداً جعل الأمة نفسها قائمة على أطلال نفسها، وبذلك أحكم عمل الوراثة الذي تعمله في الغرائز والطباع، إذ تبني بالهدم، وتقيم التاريخ من أنقاض التاريخ؛ وهذا هو الفرق بين العمل الإنساني والعمل الإلهي. وبين شيء يسمى ممكناً وشيء يسمى معجزاً.لا تزال تطيف بالرؤوس. ولقد كان من إعجاز القرآن أن يجمع هؤلاء الذين قطعوا الدهر بالتقاطع على صفة من الجنسية لا عصبية فيها إلا عصبية الروح، إذ أخذهم بالفطرة حتى ألف بين قلوبهم، وساوى بين نفوسهم، وأجرأهم على المعدلة في أمورهم، فجعل منهم أمة تسع الأمم بوجهها كيف أقبلت، لأنها لا توجهه إلا لله، فكان بينها وبين الله كل ما تحت السماء. ومن هذا المعنى نشأت الجنسية العربية، فإن القرآن بدأ كما علمت بالتإلیف بين مذاهب الفطرة اللغوية في الألسنة، ثم ألَف بين القلوب على مذهب واحد، وفرغ من أمر العرب فجعلهم سبيلاً إلى التإلیف بين ألسنة الأمم ومذاهب قلوبها، على تلك الطريقة الحكيمة التي لا يأتي علم التربية في الأمم بأبدع منها. فبقاء القرآن على وجهه العربي، مما يجعل المسلمين جميعاً على اختلاف ألوانهم، من الأسود، إلى الأحمر، كأنهم في الاعتبار الاجتماعي وفي اعتبار أنفسهم جسمٌ واحد ينطق في لغة . التاريخ بلسان واحد، فمن ثم يكون كل مذهب من مذاهب الجنسية الوطنية فيهم قد زال عن حئزه، وانتفى من صفته الطبيعية، لأن الجنسية الطبيعية التي تقدر بها فروض الاجتماع ونوافلها إنما هي في الحقيقة لون القلب لا سَحْنَةَ الوجه. وإن من أعجب ما يروعنا من أمر الجنسية العربية فىِ القرآن: أنها تأبى إلا أن تحفظ على: أهلها تلك الصفات العربية؛ من الأنفة والعزة والصوت والغَلَب: وما يكون من هذا الباعث الاجتماعي الذي لا يزال يفتح للشعوب عن مقاصير الأرض. كما أنها تستبقي طاعة المغلوبين الذين أعطوا للفاتحين عن أيديهم، وانطرحوا في غمرهم وكانوا أهل ذمتهم: لانتحالهم العربية طوعاً أو كرهاً، ثم بقائها في ألسنتهم على نسبة بينة من الفصيح مهما ركت ومهما رذلت؛ ولولا القرآن وأنه على وجه واحد وهيئة ثابتة، ما بقيت العرب، ولا تبينت النسبة بين فروعها العامية، بل لذهب كل فرع بما أحدث من الألفاظ، وما استجد من ضروب العبارة وأسإلیبها، حتى يتسلل كل قوم من هذه الجنسية إن كانوا من أهلها أو من أهل ذمتها، ثم لا تستحكم لهم بعد ذلك ناحية من الائتلاف ولا يستمر لهم سبب من الارتباط. ومَن للأمم بمثل هذا الاستعمار اللغوي الذي لم يتهيأ إلا للقرآن، وهو بعد زمام السياسة مهما جمحت في الأرض. ولقد ترى اليوم هذه التوراة وهذه الأناجيل وما يقرؤها بلغتها الأصلية إلا شرذمة قليلة من إلیهود وغير إلیهود الذين يعيشون على أحلام الذاكرة. فالعربية قد وصلها القرآن بالعقل والشعور النفسي، حتى صارت جنسية فلو جُنَّ كل أهلها. وسخوا بعقولهم على ما زَينت لهم أنفسهم من الإلحاد والسياسة كجنون بعض فتياننا. . لحفظها الشعور النفسي وحده، وهو مادةُ العقل بل مادة الحياة؛ وقد يكون العقل في يد صاحبه يضمن ويسخو، ولكن ذلك النوع من الشعور في يد الله، وهذا من تأويل قوله سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) .ولولا هذا الشعور الذي أومأنا إلیه لدونت العامية في أقطار العربية زمناً بعد زمن، ولخرجت بها الكتب، ولكان من جهلة الملوك والأمراء وأشباههم ممن تتابعوا في التاريخ العربي.

آدابُ القرآن :

آداب هذا الكتاب الكريم إنما هي آداب الإنسانية المحضة في هذا النوع أنى وجدت وحيث تكون. فإنها بعد آداب الفطرة التي لا تتغير في هذا الخلق، على ما بين طوائفه من التباين، وعلى الضروب المختلفة من أساب هذا التباين وعلله، مما ترجع جملته إلى تنوع الصور النفسية العامة التي تنشأ من الأفكار والعادات وما إلیها من الأجزاء التاريخية التي تجتمع منها الأمم، وتنشأ منها قواعد الحكم وضوابط الاجتماع ونحوها من الكليات التي يتألف تاريخ الأمة من آثارها. وانظر ما عسى أن يكون موقعُ الشريعة من نفس ترى أن كل هذه الآداب التي توجب لها المنافع على الناس مجتمعين لا توجب عليها للناس منفعة. من أجل ذلك كانت آداب القرآن ترمي في جملتها إلى تأسيس الخُلق الإنساني المحض الذي لا يضعفُ معه الضعيفُ دون ما يجبُ له، ولا يقوى معه القوي فوق ما يجب له، والذي يجعل الأدبَ عقيدة لا فكراً إذ تبعث عليه البواعث من جانب الروح، ويجعل وازعَ كل امرئ في داخله، فيكون هو الحاكم والمحكوم، ويرى عينَ الله لا تنفك ناظرة إلیه من ضميره.وأنت إذا تدبرتَ هذه القوة الروحية في آداب القرآن الكريم، واعتبرتها بمأتاها في الطباع، ومَساغها إلى النفوس، واشتمالها على سنن الفطرة الإنسانية، فإنك تتبين من جملتها تفصيلَ تلك المعجزة الاجتماعية التي نهض بها أولئك الجفاة من العرب فنفضوا رمال الصحراء على أشعة الشمس في هذا الشرق كله؛ فحيثما استقرت منها ذرة وقع وراءها عربي! بل نفضوا أقدامهم على عروش الممالك، وهم كانوا بين داع للصنَم وراع للغنم، وعالِم على وهم، وجاهل على فهم، وبين شيطان كأنه لخبثه مادة لوجود الشيطان، وإنسان كأنه لشره آلة لفناء الإنسان، فما زالوا يبسطون تلك الجزيرة حتى بلغت أضعافها، وما زالوا بالدنيا حتى جمعوا إلیهم أطرافها. وكانت النفوس مستجيبة، على أنه جيل ناقض طباعه، وخالف عاداته، وخرج مما ألف، وخلق على الكبر خلقاً جديداً، ومع ذلك فإن الفلسفة كلها والتجارب جميعاً، والعلوم قاطبة، تنشئ جيلاً من الناس ولا جماعة من الجيل ولا فئة من الجماعة كالذي أخرجته آداب القرآن وأخلاقه من أصحاب رسول اللهصلي الله عليه وسلم  -في علو النفس، وصفاء الطبع،  ورقة الجانب، وبسط الجناح، ورجاحةِ اليقين، وتمكُن الإيمان، إلى سلامة القلب، وانفساح الصدر، ونقاء الدخل وانطواء الضمير على أطهر ما عسى أن يكون الإنسان من طهارة الخلق، ثم العفة في مذاهب. الفضيلة، من حسن العصمة، وشدة الأمانة، وإقامة العدل، والذلة للحىَ، وهلم إلى أن تستوفي الباب كله. وإنما انفردت آدابُ القرآن الكريم في ذلك الجيل الذي عرفتَ من خبره بالأسلوب الذي تناولها فيه، مما يشبه في صفة البيان أن يكون وحياً يوحى إلى كل من يفهمه ويقفَ عنده متثبتاً بحال من الرأي، وفحص من النظر وبإدمان التأمل، وأخذِ النفس بالتردد في أضيق ما بين الحرف والحرف من المسافة المعنى لدقة النظم وإبراع التركيب، إلى ما يبهر الفكرَ ويملأ الصدر عجباً؛ وهذا تفسير ما جاء في الأثر من أن " من قرأه فقد استدرَجَ النبوة بين جنبيه غير أنه لا يُوحى إلیه،. ثم تأمل كيف أقام هذا الأساس الأدبي العظيم، فجعل أكرَم الناس المتساوين جميعاً في الحالتين الفردية والاجتماعية، هو أتقاهم، أي أعظمهم خلقاً، لا أوفرهم مالاً، ولا أحسنهم حالاً، ولا أكثرهم رجالاً،  اعتبر القرآن أن خير الأمم على الإطلاق إنما هي الأمة التي تتبسط في مناحي الاجتماع على هذا (الخلق الثابت) ، فإن مرجع التقوى في مظاهرها الاجتماعية إلى شيئين: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ وهما المبدأ والغاية لكل قوانين الآداب والاجتماع، ثم مرجعهما في حقيقة نفسها إلى شيء واحد: وهو الإيمان بالله؛ فالأمة التي تكون لأفرادها فضيلة التقوى، تكون لها من هذه الفضيلة صفات اجتماعية مختلفة يؤدي مجموعها إلى صفة تاريخية واحدة، وهي أنها خير أمة، على هذا جاء قوله تعالى:

 ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَؤنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾([7]) فتأمَّل كيف قَدمَ وأخر؛ فإنك لا تجد هذا النسق إلا ترتيباً لمنازل الفضيلة الاجتماعية الكبرى تجعل الأمة في نفسها خير أمة، وبالحري لا تجد هذا الترتيب إلا نسقاً في وصف الآداب الإسلامية التي جعلت أهلها الأولين حين اتبعوا وأخذوا بها خير أمة في التاريخ، بشهادة التاريخ نفسه. وإنما أركان الفضيلة الاجتماعية الكبرى في ثلاث. كلها حرية واستقلال:

استقلال الإرادة وقوتها وهذا هو الذي يكون عنه (الأمر بالمعروف) لا يكون بدونه ألبتة.

استقلال الرأي وحريته، ويكون منه (النهي عن المنكر) ولا يمكن أن يكون بغيره.

استقلال النفس من أسر العادات والأوهام، بالنظر والفكر في مصنوعات الله، ولا يكون الإيمان إيماناً على الحقيقة بدونه ثم هذا الإيمان هو الذي يسند الركنين المذكورين آنفاً ويشذهما ويقيم وزنهما الاجتماعي، فيبعث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بثقة إلهية لا يعترضها شيء من عوارض الاجتماع التي تعتري الناسَ من ضعف الطباع الإنسانية، كالجبن والنفاق، و... فإن كل هذه الصفات ليست من الإيمان بالله. وما فرط المسلمون في آداب هذا القرآن الكريم إلا منذ فرطوا في لغته، فأصبحوا لا يفهمون كلمَه، ولا يدركون حكمَه، ولا ينزعون أخلاقه وشيَمه؛ وصاروا إلى ما هم عليه من عربية كانتشراً من العجمة الخالصة واللكنة الممزوجة، فلا يقرون هذا الكتاب إلا أحرفاً. ولا ينطقون إلا أصواتاً، وتراهم يرعونه آذانهم وهم بعدُ لا يتناولون معاني كلام الله إلا من كلام الناس

وقِوام الإنساية في رأينا بثلاث، هي جملة ما ترمي إلیه آدابُ القرآن: الأولى: تعيين النسبة الصحيحة في المساواة بين الإنسان والإنسان، حتى لا تكون القوة والضعف والسيادة والتعبد ونحوها من عوارض الاجتماع فاصلةً فاصلاً طبيعياً بين فردٍ وفردٍ، وبين أُمة وأُخرى، فتقسم هذا الجنس أنواعاً متباينة بطبيعتها، ثم ينشق النوع إلى أجناس، ثم كل جنس بعد ذلك إلى أنواع، ويعمل الزمن عمله في تمكين هذه الطباع بالوراثة، وفي توكيدها بما يستحدثه نظامُ الاجتماع في القبائل والشعوب، الثانية: حياطة هذه النسبة الإنسانية فيما يُبتلى به الإنسان من الخير والشر فتنة، حتى لا يَحيف القوي ولا يَستيئسَ الضعيف، ولتنصرف رغائب الأمم على تباينها في السياسة إلى جهة من هذه النسبة المعينة، فلا تكون وقائع السياسة وأحداث الاجتماع، وما إلیها من الهزَاهزِ، كالحروب ونحوها، إلا عملاً إنسانياً يُبتَغى به دفعُ اعتداء وإقرارُ حق ورد باطل وتقويم زيغ الثالثة: حد هذه النسبة في الإنسان بالقياس إلى القوة الأزلية، حتى يتحقق معنى المساواة فيها، فإن كل ما هو أدنى فهو سواة في النسبة إلى ما هو أعلى وإن اختلف مع ذلك في نفسه وبان بعضه من بعض. وأنت إذا تدبرت آداب القرآن الكريم حيث أصبتها منه، رأيتها قائمة على تلك الثلاث جميعاً. فإن روح هذه الآداب كلها في ثلاث كلمات من قوله تعالى:

﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَؤمٍ يُؤْمِنُونَ﴾([8]) فليس في الناس اختلاف كاختلافهم في كل ما يرد إلى تعيين حقيقة النسبة في المساواة بين الإنسان والإنسان، وما الظلم والتعسفُ والمكابرة والمخاتلةُ ولا كل الرذائل الاجتماعية، إلا مظاهر متعددة لهذا الاختلاف بعينه؛ ولا القوانينُ والعادات والشرائع وكل الفضائل الاجتماعية، إلا وسائل مختلفة لتبين هذا الاختلافَ على حدود بينة من الحق.

القرآن والعلوم

والقرآن من حيث تأثيرُه في العقل الإنساني، وهو معجزة التاريخ العربي خاصة، ثم هو بآثاره النامية معجزة أصلية في تاريخ العلم كله على بَسيط هذه الأرض فإنما كان القرآن أصلَ النهضة الإسلامية وهذه كانت على التحقيق هي الوسيلةُ في استبقاء علوم الأولين وتهذيبها وتصفيتها، وإطلاق العقل فيما شاء أن يرتعَ منها، وأخذِهِ على ذلك بالبحث والنظرِ والاستدلالِ والاستنباط، وتوفير مادة الرَّوية عليه بما كان سبباً في طلب العلم للعمل، ومزاولة هذا لذاك، إلى صفاتٍ أخرى ليس هذا موضع بَسطها - وإن لها لموضعاً متى انتهينا إلى بابها من الكتاب - وهذا كله كان أساس التاريخ العلمي في أوروبا وقد أومأنا إلى بدء تاريخ التدوين العلمي وبعض أسبابه في باب الرواية من الجزء الأول من تاريخ آداب العرب، فنقتصر هنا على موجز من أسباب النشأة العلمية.(ودعنا)نكشفَ لك عن معنى عجيب في هذا الكتاب الكريم، فهو قد نزل في البادية على نبي أمِّي وقوم أميين لم يكن لهم إلا ألسنتُهم وقلوبهم، وكانت فنونُ القول التي يذهبون فيها مذاهبهم ويتواردون عليها، لا تجاوز ضروباً من الصفات، وأنواعاً من الحكم، وطائفة من الأخبار والأنساب، وقليلاً مما يجري هذا المجرى، فلما نزل القرآن بمعانيه الرائعة التي افتن بها في غير مذاهبهم، ونزع منها إلى غير فنونهم، لم يقفوا على ما أريد به من ذلك، بل حملوه على ظاهره وأخذوا منه حُكم زمانهم، وكان لهم في بلاغته المعجزة مَقنَع، وما درى عربي واحد من أولئك لِمَ جعل الله في كتابه هذه المعاني المختلفة، وهذه الفنونَ المتعددة، التي يهيجُ بعضُها النظر، ويشحذ بعضها الفكر، ويمكن بعضها اليقين، ويبعث بعضها على الاستقصاء. وهي لم تكن تلتئم على ألسنتهم من قبل؛ بيدَ أن الزمان قد كشف بعدهم عن هذا المعنى، وجاء به دليلاً بيناً منه على أن القرآن كتاب الدهر كله؛ وكم للدهر من أدلة على هذه الحقيقة ما تبرح قائمة؛ فعلمنا من صَنيع العلماء أن القرآن نزل بتلك المعاني، ليخرج للأمة من كل معنى علماً برأسِه، ثم يعمل الزمن عمله فتخرج الأمة من كل علم فروعاً، ومن كل فرع فنوناً إلى ما يستوفى في هذا الباب على الوجه الذي انتهت إلیه العلوم في الحضارة الإسلامية؛ وكان سبباً في هذه النشأة الحديثة من بعد أن استدار الزمان وذهبت الدنيا مُستدبرة وأنشأ الله القرونَ والأجيالَ لتبلغ هذه الحادثة أجلَها ويتناهى بها القضاء وإن من شيء إلا عند الله خزائنه ولقد كانت النهضة العلمية في زمن بني أمية قائمة بأكثر العلوم الإسلامية التي مرَّت الإشارة إلیها، حتى امتهد أبو جعفر المنصور؛ ثم الرشيد من بعده للنهضة العباسية الكبرى التي نشات من جمع كلمة أهل الفقه والحديث بعد انشقاقهم زمناً وافتراق الكلمة بينهم - ومن إقبال الناس على الطلب والاستيعاب؛ فكان ذلك تهيئة لانشقاق علوم الفلسفة والكلام وما إلیها وظهور أهلها وانحياز السنة عنها جانباً، ثم اجتماعها على مناظرتها .

سرائر القرآن

بعد أن صدرت الطبعة الأولى من كتابنا هذا خرج في الآستانة القديمة. . كتاب جليل للقائد العظيم والعالم الرياضي الفلكي المشهور الغازي أحمد مختار باشا رحمه الله، أسماه (سرائر القرآن) وبناه على سبعين آية من كتاب الله تعالى فسَّرها بآخر ما انتهى إلیه العلم الحديث في الطبيعة والفلك، فإذا هي في القرآن منْطَبق السماء عن نفسها، لا يتكذَّبُ ولا يَزيغ ولا يلتوي، وإذا هي تثبت أن هذا الكتاب الكريم سبقَ العقلَ الإنساني ومخترعاته بأربعة عشر قرناً إلى زمننا، وما ذاك إلا فصل من الدهر، وستعقبه فصول بعد فصول. قال الغازي في مقدمة كتابه: " وفي القرآن غير ما يكفل للهيئة الاجتماعية سعادتها وسلامتها في معاشها ومعادها مما حواه من الدساتير الأخلاقية والقضائية والإدارية والسياسية وعظةِ الأمثال والقصص - فيه إشارات وآيات بينات في مسائل ما برحت العلوم الطبيعية تحاول الكشف عن كنهها منذ عصور، ولا سيما في علم التكوين والتخريب (القيامة) الذي دل الآن بنظريات الإخصائيين من علماء الفلك ومباحثهم ومشاهداتهم في طور التقدم والارتقاء وإنك لا تكاد تقلب من المصحف الشريف بضع صفحات حتى تجد آية في أسرار الكائنات وأحوال السماء منظومة في نسَقها بمناسبة من أبدع المناسبات. كتابُ " سرائر القرآن " ثلاثة فصول: الأول في كيفية تكوين العالم ووجود الحياة. والثاني في يوم القيامة أو خاتمة عمر الأرض. والثالث في المباحث والآيات القرآنية المتعلقة بإعادة الخلق وكل ذلك مطبق على نظريات وآراء الحكماء الأولين والآخرين إلى عصرنا، ثم ما يؤيد حقيقة ما انتهوا إلیه من آيات القرآن الكريم. وكان الغازي يفكر في هذا الكتاب خمسة وعشرين عاماً فرحمة الله عليه كفاء ما أحسن إلى أمته.

تفسير آية

وقد رأينا أن نسوق هنا تفسير آية من القرآن الكريم أصبناه في بعض كتب الحكيم العلامة داود الأنطاكي ، فُتح عليه به وهو في أضعف الأزمنة وأشدها انحطاطاً وفقراً من الوسائل العلمية. ولا تنسَ أن الآية أنزلت على نبى أمِّي في قوم لا يعرفون كثيراً ولا قليلاً من علم التشريح أو علم التكوين. أما الآية فهي قوله تعالى:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ([9])) .وفي هذه الآية دقائق: (الأولى) عبر في الأول ب (خلقنا) ، لصدقه على الاختراع، وفي الثاني ب (جعلنا) لصدقه على تحويل المادة، ثم عبر في الثالثة وما بعدها كالأول لأنه أيضاً إيجاد ما لم يسبق، (الثانية) مطابقة هذه المراتب لأيام الكواكب المذكورة ومقتضياتها للمناسبة الظاهرة وحكمة الربط الواقع بين العوالم، (الثالثة) قوله (فَكَسَوْنَا) وهي إشارة إلى أن اللحم ليس من أصل الخلقة اللازمة للصورة، بل كالثياب المتخذة للزينة والجمال؛ وأن الاعتماد على الأعضاء والنفس خاصة، (الرابعة) قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ) سماه بعد نفخ الروح إنشاء لأنه حينئذ قد تحقق بالصورة الجامعة، (الخامسة) قوله (خَلْقًا) ولم يقل إنساناً ولا آدمياً ولا بشراً لأن النظر فيه حينئذ لما سيُفاضُ عليه من خلع الأسرار الإلهية، فقد آن خروجه من السجن وإلباسه المواهب فقد يتخلق بالملكيات فيكون خلقاً ملكياً قدسياً، أو بالبهيمية فيكون كذلك، أو بالحجرية إلى غير ذلك؛ فلذلك أبهمَ الأمرَ وأحاله على اختياره وأمر بتنزيهه على هذا الأمر الذي لا يشاركه فيه غيره. وفي الآية من العجائب ما لا يمكن بسطه هنا، وكذلك سائر آيات هذا الكتاب الأقدس وأنت لو عرضت ألفاظَ هذه الآية على ما انتهى إلیه علماء تكوين الأجنة وعلماء التشريح وعلماء الوراثة النفسية، لرأيت فيها دقائق علومهم، كان هذه الألفاظ إنما خرجت من هذه العلوم نفسها، وكأن كل علم وضع في الآية كلمته الصادقة، فلا تملك بعد هذا أن تجد ختام الآية إلا ما ختمت هي به من هذا التسبيح العظيم (فَتَبَارَكَ اللَّهُ(

الفصل الثاني : إعجاز القرآن

الإعجاز شيئان: ضعف القدرة الإنسانية في محاولة المعجزة ومزاولته على شدة الإنسان واتصال عنايته، ثم استمرار هذا الضعف على تراخي الزمن وتقدمه؛ فكأن العالم كله في العجز إنسان واحد ليس له غير مدته المحدودة بالغة ما بلغت؛ فيصير من الأمر المعجز إلى ما يشبه في الرأي مقابلة أطول الناس عمراً بالدهر على مداه كله. فإن المعمر دهرَ صغير، وإن لكليهما مدة في العمر هي من جنس الأخرى؛ غير أن واحدة منهما قد استغرقت الثانيةَ؛ فإن شاركتها الصغرى إلى حد فما عسى أن يشركهما فيما بقي

الأقوال في الإعجاز

كان أول ما ظهر من الكلام في القرآن، مقالة تُعزى إلى رجل يهودي يسمى لَبيد بن الأعصم فكان يقول: إن التوراة مخلوقة، فالقرآن كذلك مخلوق، ثم أخذها عنه طالوت ابن أخته وأشاعها، فقال بها بَنَان بن سمعان الذي إلیه تُحْسب البنانية، وتلقاها عنه الجعْد بن درهم (مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية) وكان زنديقاً فاحش الرأي واللسان، وهو أول من صرَّح بالإنكار على القرآن والرد عليه، وجَحَدَ أشياء مما فيه. وأضاف إلى القول بخلقه أن فصاحته غير معجزة.

أما الجاحظ فإن رأيه في الإعجاز كرأي أهل العربية، وهو أن القرآن في الدرجة العليا من البلاغة التي لم يعهد مثلها، وله في ذلك أقوال نشير إلى بعضها في موضعه غير أن الرجل كثير الاضطراب، فإن هؤلاء المتكلمين كأنما كانوا من عصرهم في مُنخُل. ولذلك لم يسلم هو أيضاً من القول بالصرفة، وإن كان قد أخفاها وأومأ إلیها عن عُرض، فقد سرد في موضع من كتاب (الحيوان) طائفة من أنواع العجز، وردها في العلة إلى أن الله صرف أوهام الناس عنها ورفع ذلك القصد من صدورهم، ثم عد منها: " ما رَفعَ من أوهام العرب وصرف نفوسهم عن المعارضة لقرآنه بعد أن تحداهم الرسول بنُظمه "([10]) وبعض الفِرَق، فإنهم يقولون: إن وجه الإعجاز في القرآن هو ما اشتمل عليه من النظم الغريب المخالف لنظم العرب ونثرهم، في مطالعه ومقاطعه وفواصله؛ أي فكأنه بدعٌ من ترتيب الكلام لا أكثر. وبعضهم يقول: إن وجه الإعجاز في سلامة ألفاظه مما يَشين اللفظَ: كالتعقيد والاستكراه ونحوهما مما عرفه علماء البيان، وهو رأي سخيف يدل على أن القائلين به لم يُلابسوا صناعة المعاني. وآخرون يقولون: بل ذلك في خُلُؤه من التناقض واشتماله على المعاني الدقيقة. وجماعة يذهبون إلى أن الإعجاز مجتمع من بعض الوجوه التي ذكرناها كثرة أو قلة، وهذا الرأي حسن في ذاته، لا لأنه الصواب، ولكن لأنه يدل على أن كل وجه من تلك الوجوه ليس في نفسه الوجه المتقبَّل. أما الرأي المشهور في الإعجاز البياني الذي ذهب إلیه عبد القادر الجُرجاني صاحب (دلائل الإعجاز) فكثير من المتوسمين بالأدب يظنون أنه أول من صنف فيه ووضع من أجله كتابه المعروف، وذلك وهم، فإن أول من جوَّد الكلام في هذا المذهب وصنف فيه، أبو عبد الله محمد بن يزيد الواسطي ثم أبو عيسى الرمّاني ثم عبد القادر، وهذا الرأي كان هو السبب في وضع علم البيان، كما نبسطه في موضعه من تاريخ آداب العرب إن شاء الله.

أما الذين يقولون إن القرآن غيرُ معجز، لا بقوة القدَر ولا بضعف القدرة، فقد ذكرنا من أمرهم طرفاً، وأشدهم بعد الجعد بن درهم: عيسى بنُ صَبيح المُزدارُ وأصحابه المزدارية، وكان عيسى هذا تلميذاً لبِشر بن المعتمر - من أكبر شيوخ المعتزلة وأفراد بلغائهم - ثم كان مبتلى بجنون التكفير، حتى سأله إبراهيم بن السِّندي مرة عن أهل الأرض جميعاً، فكفرهم، فأقبل عليه وقال: الجنة التي عَرضها السموات والأرض لا يدخلها إلا أنت، وثلاثة وافقوك ! ومع هذا فكان الرجل من الزهد والورَع بمكانِ حتى لقبوه راهب المعتزلة. وقد زعم أن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحةَ ونظماً وبلاغة؛ وعلى ذلك أصحابه، وهو جنون بلا ريب ليس أقبح منه إلا جنون الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم العناني الذين يزعمون أن كتبهم وكلامهم أبلغ وأهدى وأبين من القرآن

حقيقة الإعجاز

إن الذي ظهر لنا بعد كل ذلك واستقر معنا، أن القرآن معجز بالمعنى الذي يُفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه، حين ينفى الإمكان بالعجز عن غير الممكن، فهو أمر لا تبلغ منه الفطرة الإنسانية مبلغاً وليس إلى ذلك ماتى ولا جهة؛ وإنَّما هو أثر كغيره من الآثار الإلهية، يشاركها في إعجاز الصنعة وهيئة الوضع، وينفرد عنها بان له مادة من الألفاظ كأنها مفرغة إفراغاً من ذوْب تلك المواد كلها. وما نظنه إلا الصورة الروحية للإنسان، إذا كان الإنسان في تركيبه هو الصورة آلروحية للعالم كله. فالقرآن معجز في تاريخه دون سائر الكتب، ومعجز في أثره الإنساني؛ ومعجز كذلك في حقائقه؛ وهذه وجوه عامة لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء؛ فهي باقية ما بقيت ولا بد لنا قبل الترسل في بيان ذلك الإعجاز، أن نَوطئ بنبذٍ من الكلام في الحالة اللغوية التي كان عليها العربُ عندما نزل القرآن، فسنقلبُ من كتاب الدهر ثلاثَ عشرةَ صفحة تحتوي ثلاثةَ عشر قرناً؛ لنتصل بذلك العهد حتى نُخبر عنه كأننا من أهله وكأنه رأيُ العين. وكل من يبحث في تاريخ العرب وآدابهم، وينفذ إلى ذلك من حيث تنفذ به الفطنة وتتأتى حكمة الأشياء فإنه يرى كل ما سبق على القرآن - من أمر الكلام العربي وتاريخه - إنما كان توطيداً له وتهيئة لظهوره وتناهياً إلیه ودُرية لإصلاحهم به وليس في الأرض أمة كانت تربيتها لغوية غيرَ أهل هذه الجزيرة. وأي شيء في تاريخ الأمم أعجب من نشأة لغوية تنتهي بمعجزة لغوية، ثم يكون الدين والعلم والسياسة وسائر مقومات الأمه مما تنطوي عليه هذه المعجزة، وتأتي به على أكمل وجوهه وأحسنها، وتخرج به للدهر خير أمة كان عملها في الأمم صورة أخرى من تلك المعجزة. فلو أن هذا القرآن غير فصيح، أو كانت فصاحته غير معجزة في أسإلیبها التي ألقيت إلیهم، لما نال منهم على الدهر منالاً، ولخلا منه موضعه الذي هو فيه، ثم لكانت سبيله بينهم سبيل القصائد والخطب والأقاصيص، وهو لم يخرج عن كونه في الجملة كأنه موجود فيهم بأكثر معانيه، قبل أن يوجد بألفاظه وأسإلیبه، ثم لنقضوه كلمة كلمة، وآية آية، دون أن تتخاذل أرواحهم، أو تتراجع طباعهم، ولكان لهم وله شأن غير ما عرف؛ ولكن الله بالغ أمره، وكان أمر الله قدَراً مقدوراً.

التحدي والمعارضة

كان العرب قد بالغوا لعهد القرآن مبلغهم من تهذيب اللغة ومن كمال الفطرة، ومن دقة الحس البياني، حتى أوشكوا أن يصيروا في هذا المعنى قبيلاً واحداً باجتماعهم على بلاغة الكلمة وفصاحة المنطق فجاء القرآن الكريم أفصح كلام وأبلغَه لفظاً وأسلوباً ومعنى، ليجد السبيل إلى امتلاك الوحدة العربيـــة التي كانت معقودة بالألسنة يومئذ وهو متى امتلكها استطاع أن يصرفها، وأن يحدث منها فمن ثم لم تقم للعرب قائمة بعد أن أعجزهم القرآنُ من جهة الفصاحة التي هي أكبر أمرهم، ومن جهة الكلام الذي هو سيدُ عملهم، بل تصدعوا عنه وهم أهلُ البسالة والبأس وهم مَساعير الحروب ومغاويرها، وهم كالحصى عدداً وكثرة، وليس لرسول الله جمتِ إلا نفسهُ، وإلا نفرٌ قليل معه، لم يستجيبوا له ولم يبذلوا مفادَتهم ونصرَهم إلا بعد أن سمعوا القرآن ورأوا منه ما استهواهم وكاثرَهم وغلبهم على أنفسهم؛ فكانت الكلمة منه تقع من أحدهم وإن لها ما يكون للخطبة الطويلة والقصيدة العجيبة في قبيلة بأجمعها. ونزل القرآن على الوجه الذي بيناه، فظنه العرب أول وهلة من كلام النبي – صلي الله عليه وسلم - وروحوا عن قلوبهم بانتظار ما أمَّلوا أن يَطلِعوا عليه في آياته البينات، كما يعتري الطبع الإنساني من الفترة بعد الاستمرار، والتراجع بعد الاستقرار، ومن  اضطراب القوة البيانية بعد إمعانها، وجماحِها الذي لا بد منه بعد إذعانها، ثم ما هو في طبع كل بليغ من الاختلاف في درجات البلاغة علوا ونزولاً وقد كان من عادتهم أن يتحدى بعضهم بعضاً في المساجلة والمقارضة بالقَصيد والخطب، ثقةَ منهم بقوة الطبع، ولأن ذلك مذهب من مفاخرهم، يستَعلون به ويذيع لهم حسن الذكر وعلو الكلمة؛ وهم مجبولون عليه فطرة. ولهم فيه المواقف والمقامات في أسواقهم ومجامعهم، فتحداهم القرآن في آيات كثيرة أن يأتوا بمثله أو بعضه، وسلك إلى ذلك طريقاً كأنها قضية من قضايا المنطق التاريخي، فإن حكمة هذا التحدي وذكرهِ في القرآن، إنما هي أن يشهد التاريخ في كل عصر بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللدُّ والفصحاء اللسن، وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه ولا خير منهم في الطبع والقوة، فكانوا مَظنةَ المعارضة والقدرة عليها. أما الطريقة التي سلكها إلى ذلك، فهي أن التحدي كان مقصوراً على طلب المعارضة بمثل القرآن، ثم بعشر سوَر مثله مفتريات لا يلتزمون فيها الحكمة ولا الحقيقة، وليس إلا النظم والأسلوب، وهم أهل الله ولن تضيق أساطيرهم وعلومهم أن تسعها عشر سور. . . ثم قرَن التحدي بالتأنيب والتقريع، ثم استفزَّهم بعد ذلك جملة واحدة كما ينفجُ الرَّمادُ الهامدُ، فقال :

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ([11]) .

أسلوب القرآن

وهذا الأسلوب فإنما هو مادة الإعجاز العربي في كلام العرب كله، ليس من ذلك شيء إلا وهو معجز، وليس من هذا شيء يمكن أن يكون معجزاً وهو الذي قطع العرب دون المعارضة، واعتقلهم عن الكلام فيها، وضربهم بالحجة من أنفسهم وتركهم على ذلك يتلكأون. فلما ورد عليهم أسلوب القرآن رأوا ألفاظهم باعيانها متساوقة فيما ألفوه من طرق الخطاب وألوان المنطق.ليس في ذلك إعناتَ ولا معاياة، غير أنهم ورد عليهم من طرق نظمه، ووجوه تركيبه، ونسق حروفه في كلماتها، وكلماته في جملها، ونسق هذه الجمل في جملته - ما أذهلهم عن أنفسهم، من هيبة رائعة وروعة مخوفة، وخوف تقشعر منه الجلود؛ حتى أحسُّوا بضعف الفطرة القوية، وتخلف الملكة المستحكمة؛ ورأى بلغاؤهم أنه جنس من الكلام غير ما هم فيه، وأن هذا التركيب هو روح الفطرة اللغوية فيهم، وأنه لا سبيل إلى صرفه عن نفس أحد العرب أو اعتراض مساغه إلى هذه النفس، إذ هو وجه الكمال اللغوي الذي عرف أرواحهم واطلع على قلوبهم، بل هو السر الذي يفشي بينهم نفسَه، وإن كتموه، ويظهر على ألسنتهم ويتبين في وجوههم وينتهي إلى حيث ينتهي الشعور والحس، فليس للخلابة أو المؤاربة وجة في نقض تأثيره. وقد استيقن بلغاء العرب كل ذلك فاستيأسوا من حق المعارضة، إذ وجدوا من القرآن ما يغمر القوة ويحيل الطبع ويخاذل النفس مصادَمة لا حيلة ولا خدعة. معارضة السور القصار أشد على المولَّدين ومن في حكمهم من إرادة الطوال بالمعارضة وهذه الطوال، فكل آية منها في الاستحالة على المعارضة تقوم بما في السور القصار كلها، لتحقيق وجه النظم وأسرار التركيب واستفاضةِ ذلك وترادفها بما هو مقطعة للأمل، ومن تعلق الآية بما قبلها، وتسببها لما بعدها؛ وظهورها في جملة النسق، فأين يجولُ الرأي في هذا كله ومن أين يستطرد؟ وسبيل نظم القرآن في إعجازه سبيل هذه المعجزات المادية التي تجيء بها الصناعات، وكثيرة ما هي، إلا في شيء واحد وهو في القرآن سر الإعجاز إلى الأبد، وذلك أن معجزات الصناعة إنما هي مركبات قائمة من مفردات مادية، متى وقف امرؤ من الناس على سر تركيبها ووجه صنعتها فقد بَطلَ إعجازها بخلاف الكلام الذي هو صور فكرية لا بد من أوضاعها من التفاوت على حسب ما يكون من اختلاف الأمزجة والطباع وآثار العصور - ولا تجزئ فيها الصناعة وآلاتها - من صفاء الطبع ودقة الحس وسلامة الذوق ونحوها مما يرجع أكثره إلى الفطرة النفسية في أي مظاهرها. ويعد خروج القرآن من أسإلیب الناس كافة دليلاً على إعجازه، وعلى أنه ليس من كلام إنسان، بيد أننا لم نرَ أحداً كشف عن سر هذا المعنى، ولا ألمَّ بحقيقته، ولا أوضح الوجهَ الذي من أجله خالف أسلوب القرآن كل ما عرف من أسإلیب الناس ولم يشبه واحداً منها، ونحن نوجز القول فيه لأنه أصل من أصول الكلام في أسإلیب الإنشاء ولبسطه موضع سيأتيك في بابه إن شاء الله. يخلصُ لنا أن القرآن الكريم إنما ينفرد بأسلوبه، لأنه ليس وضعاً إنسانيأ ألبتة، ولو كان من وضع إنسان لجاء على طريقة تشبه أسلوباً من أسإلیب العرب أو من جاء بعدهم إلى هذا العهد، ولا من الاختلاف فيه عند ذلك بد في طريقته ونسقِه ومعانيه (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) ومعنى آخر وهو أننا نرى أسلوب القرآن من اللين والمطاوعة والمرونة في التأويل، بحيث لا يصادم الآراء الكثيرة المتقابلة التي تخرج بها طبائع العصور المختلفة، فهو يفسر في كل عصر بنقص من المعنى وزيادة فيه، واختلاف وتمحيص، وقد فهمه عرب الجاهلية الذين لم يكن لهم إلا الفطرة، وفهمه كذلك من جاء بعدهم من الفلاسفة وأهل العلوم، وفهمه زعماء الفرق المختلفة على ضروب من التأويل، وأثبتت العلوم الحديثة كثيراً من حقائقه التي كانت مغيبة وفي علم الله ما يكون من بعد.

نظمُ القرآن

كل بليغ يعرف ما هي البلاغة وكيف هي، إلا استشعار العجز عنها والوقوف من دونها. وإنَّما تلك الجهات صفات من نظم القرآن وطريقة تركيبه، فنحن الآن قائلون في سر الإعجاز الذي قامت عليه هذه الطريقة وانفرد به ذلك النظم؛ وهو سر لا ندعي أننا نكشفه أو نستخلصه أو ننتظم أسبابه، وإنما جهدنا أن نومئ إلیه من ناحية ونعينَ بعض أوصافه من ناحية، فإن هذا القرآن هو ضمير الحياة العربية، وهو من اللغة كالروح الإلهية التي تستقر في مواهب الإنسان فتضمن لآثاره الخلود. والكلام بالطبع يتركب من ثلاثة حروف هي من الأصوات، وكلمات هي من الحروف، وجُمَل هي من الكلم.

وقد رأينا سر الإعجاز في نظم القرآن يتناول هذه كلها بحيث خرجت من جميعها تلك الطريقة المعجزة التي قامت به؛ فليس لنا بد في صفته من الكلام في ثلاثتها جميعاً. ونحن إنما نبحث في القرآن من جهة ما انفرد به في نفسه على وجه الإعجاز، لا من جهة ما يشركه فيه غيره على أي وجه من الوجوه وأنواعُ البلاغة مستفيضة في كل نظام سوِي وكل تإلیف مونق، وكل سبك جيد، وما كان من الكلام بليغاً فإنه بها صار بليغاً، لمان كانت هي بعدُ في أكثر الكلام إلى تفاوت واختلاف. ومن أظهر الفروق بين أنواع البلاغة في القرآن، وبين هذه الأنواع في كلام البلغاء، أن نظم القرآن يقتضي كلَّ ما فيه منها اقتضاءاً طبيعياً بحيث يُبنى هو عليها لأنها في أصل تركيبه، ولا تبنى هي عليه؛ فليست فيها استعارة ولا مجاز ولا كناية ولا شيء من مثل هذا يصح في الجواز أو فيما يسعه الإمكان أن يصلح غيره في موضعه إذا تبدلته منه، فضلاً عن أن يفي به، وفضلاً عن أن يربى عليه، ولو أدرتَ اللغة كلها على هذا الموضع. فكأن البلاغة فيه إنما هي وجه من نظم حروفه بخلاف ما أنت واجد من كلام البلغاء، فإن بلاغته إنما تصنع لموضعها وتُبنى عليه، فربما وَفَت وربما أخلفت. ولو هي رفعت من نظم الكلام ثم نزل غيرها في مكأنها لرأيت النظم نفسه غير مختلف، بل لكان عسى أن يصح ويجود في مواضع كثيرة من كلامهم، وأن نعرف له بذلك مزية في توازن حروفه وائتلاف مخارجها وتناسب أصواتها، ونحو هذا مما هو أصل الفصاحة، ومما لا تغني فيه استعارة ولا مجاز ولا كناية ولا غيرها. لأنه وجه من تإلیف الحروف ونسق اللفظ فيها؛ وأنواع البلاغة إنما هي وجوه التإلیف بين معاني الكلمات. فالحرف الواحد من القرآن محجز في موضعه، لأنه يمسك الكلمة التي هو فيها ليمسك بها الآية والآيات الكثيرة، وهذا هو السر في إعجاز جملته إعجازاً أبدياً، فهو أمر فوق الطبيعة الإنسانية، وفوق ما يتسبب إلیه الإنسان إذ هو يشبه الخلق الحي تمام المشابهة، وما أنزله إلا الذي يعلم "السر" في السموات والأرض. فأنت الآن تحلم أن سر الإعجاز هو في النظم، وأن لهذا النظم ما بعده؛ وقد علمت أن جهات النظم ثلاث: في الحروف، والكلمات، والجُمل، فههنا ثلاثة فصول تعرفها فيما يلي:

الحروف وأصواتها

مخارج الحروف وصفاتها إنما أُخذ أكثرها من ألفاظ القرآن لا من كلام العرب وفصاحتهم، لأن ههنا موضعَ القول فيه، فإن طريقة النظم التي اتسقت بها ألفاظ القرآن، وتألفت لها حروف هذه الألفاظ، إنما هي طريقة يتوخى بها إلى أنواع من المنطق وصفات من اللهجة لم تكن على هذا الوجه من كلام العرب فلما قرئ عليهم القرآن، رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جُمله، ألحاناً لغوية رائعة؛ كأنها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة، قراءتها هي توقيعها فلم يفتهم هذا المعنى، وأنه أمرٌ لا قِبل لهم به، وكان ذلك أبينَ في عجزهم؛ حتى إن من عارضه منهم، كمسيلمة، جَنَحَ في خرافاته إلى ما حسبه نظماً موسيقياً أو باباً منه وطوى عما وراء ذلك من التصرف في اللغة وأسإلیبها ومحاسنها ودقائق التركيب البياني، كأنه فطن إلى أن الصدمة الأولى للنفس العربية، وإنَّما هي في أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها؛ وليس يتفق ذلك في شيء من كلام العرب إلا أن يكون وزناً من الشعر أو السجع. وأنت تتبين ذلك إذا أنشاتَ ترتل قطعة من نثر فصحاء العرب أو غيرهم على طريقة التلاوة في القرآن، مما تراعي فيه أحكامَ القراءة وطرق الأداء، فإنك لا بد ظاهر بنفسك على النقص في كلام البلغاء وانحطاطه في ذلك عن مرتبة القرآن وحسبك بهذا اعتباراً في إعجاز النظم الموسيقي في القرآن، وأنه مما لا يتعلق به أحد، ولا ينفق على ذلك الوجه الذي هو فيه إلا فيه، لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها، ومناسبةِ بعض ذلك لبعضه مناسبة طبيعية في الهمس والجهر، والشدة والرخاوة والتفخيم والترقيق والتفشي والتكرير، وغير ذلك ولقد كان هذا النظم عينه هو الذي صفى طباعَ البلغاء بعد الإسلام، وتولى تربية الذوق الموسيقي اللغوي فيهم، حتى كان لهم من محاسن التركيب في أسإلیبهم ولولا القرآن وهذا الأثر من نظمه العجيب، لذهب العرب بكل فضيلة في اللغة، ولم يبق بعدهم للفصحاء إلا كما بقي من بعد هؤلاء في العامية، بل لما بقيت اللغة نفسها ومما انفرد به القرآن وباينَ سائر الكلام، أنه لا يخلق على كثرة الرد وطول التكرار، ولا تمل منه الإعادة؛ وكلما أخذت فيه على وجه الصحيح فلم تخل بأدائه، رأيته غضاً طرياً، وجديداً مونقاً، وصادفت من نفسك له نشاطاً مستأنفاً وحِساً موفوراً، وهذا أمر يستوي في أصله العالم الذي يتذوق الحروف ويستمري تركيبها ويُمعن في لذة نفسه من ذلك، والجاهل الذي يقرأ ولا يثبت معه من الكلام إلا أصوات الحروف، وإلا ما يميزه من أجراسها على مقدار ما يكون من صفاء حسه ورقة نفسه ولا يذهبن عنك أن الحروف لم تكن في القرآن على ما وصفنا بأنفسها دون حركاتها الصرفية والنحوية، وليست هذه الحركات إلا مظاهر الكلم فمن ههنا يستجر لنا القول في النوع الثاني من سر الإعجاز

الكلمات وحروفها

والكلمة في الحقيقة الوضعية إنما هي صوت النفس؛ لأنها تَلبَس قطعة من المعنى فتختص به على وجه المناسبة وصوت النفس أولُ الأصوات الثلاثة التي لا بد منها في تركيب النسق البليغ، حتى يستجمعَ الكلام بها أسباب الاتصال بين الألفاظ ومعانيها، وبين هذه المعاني وصوَرها النفسية، أما الأصوات الثلاثة التي أومأنا إلیها فهي: صوت النفس، وهو الصوت الموسيقي الذي يكون من تإلیف النغم بالحروف ومخارجها وحركاتها ومواقع ذلك من تركيب الكلام ونظمه على طريقة متساوقة صوت العقل، وهو الصوت المعنوي الذي يكون من لطائف التركيب في جملة الكلام، ومن الوجوه البيانية التي يداورُ بها المعنى، لا يخطئ طريقَ النفس من أي الجهات انتحى إلیها. صوت الحس، وهو أبلغهن شأناً، لا يكون إلا من دقة التصور المعنوي، والإبداع في تلوين الخطاب، ومجاذبة النفس مرة وموادعتها مرة، واستيلائه على محضها بما يورد عليها من وجوه البيان وعلى مقدار ما يكون في الكلام البليغ من هذا الصوت، يكون فيه من روح البلاغة. وليس إلا أن تقرأه (أي القرآن) حتى تحس من حروفه وأصواتها وحركاتها ومواقع كلماته وطريقة نظمها ومداورتها للمعنى - بأنه كلام يخرج من نفسك، وبأن هذه النفس قد ذهبت مع التلاوة أصواتاً، واستحال كل ما فيك من قوة الفكر والحس إلیها وجرى فيها مجرى البيان، فصرت كأنك على الحقيقة مطوي في لسانك. ولو ذهبنا نبحث في أصول البلاغة الإنسانية عن حقيقة نفسية ثابتة قد اطردت في اللغات جميعاً وهي في كل لغة تعد أصلاً في بلاغتها، لما أصبنا غير هذه الحقيقة التي لا تظهر في شيء من الكلام ظهورها في القرآن وهي: (الاقتصاد في التأثير على الحس النفسي) . ولما كان الأصل في نظم القرآن أن تعتبر الحروف بأصواتها وحركاتها ومواقعها من الدلالة المعنوية، استحال أن يقع في تركيبه ما يسوغ الحكم في كلمة زائدة أو حرف مضطرب أو ما يجري مجرى الحشو والاعتراض، أو ما يقال فيه إنه تغوث واستراحة كما تجد من كل ذلك في أسإلیب البلغاء، بل نزلت كلماته منازلها على ما استقرت عليه طبيعة البلاغة، وما قد يشبه أن يكون من هذا النحو الذي تمكنت به مفردات النظام الشمسي وارتبطت به سائر أجزاء المخلوقات، ولقد صارت ألفاظ القرآن بطريقة استعمالها ووجه تركيبها كأنها فوق اللغة، فإن أحداً من البلغاء لا تمتنع عليه فصح هذه العربية متى أرادها، وهي بعد في الدواوين والكتب، ولكن لا تقع له مثل ألفاظ القرآن في كلامه، وإن اتفقت له نفس هذه الألفاظ بحروفها ومعانيها، لأنها في القرآن تظهر في تركيب ممتنع فتعرَف به، ولهذا ترتفع إلى أنواع أسمى من الدلالة اللغوية أو البيانية التي هي طبيعية فيها، فتخرج من لغة الاستعمال إلى لغة الفهم، ولو تدبرتَ ألفاظ القرآن في نظمها، لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة فيهيئ بعضها لبعض، ويساند بعضاً، ولن تجدها إلا مؤتلفةً مع أصوات الحروف، مُساوقةً لها في النظم الموسيقي، وبهذا الذي قدمناه ونحوه مما أمسكنا عنه ولم نستقصِ في أمثلته لأنه أمر مُطرد - تعرف أن القرآن إنما أعجز في اللغة بطريقة النظم وهيئة كوضع ولن تستويَ هذه الطريقة إلا بكل ما فيه على جهته ووضعه، فكل كلمة منه ما دامت في موضعها فهي من بعض إعجازه، ومن ههنا ينساق بنا الكلام إلى القول في النوع الثالث.

الجمل وكلماتها

والجملة هي مظهرُ الكلام، وهي الصورة النفسية للتإلیف الطبيعي، إذ يُحيلُ بها الإنسان هذه المادة المخلوقة في الطبيعة، إلى معاني تُصورها في نفسه أو تصفها، ترى النفس هذه المادة المصورة وتحسها. على حين قد لا يراها المتكلم الذي أهدَفَها لكلامه غرضاً ولكنه بالكلام كأنه يراها. ولذا كانت المعاني في كلماتها التي تؤدي إلیها كأنها في الاعتبار بقية الشعاع النظري الذي اتصل بالمادة الموصوفة، أو بقية حس آخر من الحواس التي هي في الحقيقة جملة آلات الإنسان في صنع اللغة. وإنما اطرد ذلك للقرآن من جهة تركيبه الذي انتظم أسباب الإعجاز من الصوت في الحرف، إلى الحرف في الكلمة، إلى الكلمة في الجملة، حتى يكون الأمر مقدراً على تركيب الحواس النفسية في الإنسان تقديراً يطابق وضعَها وقواها وتصرفها، وذلك إيجاد خلقي لا قِبَل للناس به ولم يتهيأ إلا في هذه العربية عن طريق المعجزة التي لا تكون معجزة حتى تخرق العادة، وتفوت المألوف، وتعجز الطوقَ، وإنما امتنع أن يكون في مقدور الخلق، لأنه تفصيل للحروف على النحو الذي يأخذه فيه تركيب الحياة، من تناسب الأجزاء في الدقيق والجليل، وقيام بعضها ببعض لا يغني منها شيء عن شيء في أصل التركيب وحكمته ولا يرد غيرها مردها ولا يأتلف ائتلافها. ولقد كانت هذه الطريقة المعجزة التي نزل بها القرآن هي السبب في حفظ العربية واستخراج علومها؛ وما كان أصل ذلك إلا التحدي بها، فإن من حكمة هذا التحدي أن يدعوَهم إلى النظر في أسإلیبه ووجه نظمه وتدبُر طريقته، وأن يروزوا أنفسهم منها وَيزنوها به، حتى إذا استيقنوا العجز وأطرقوا عليه، كان ذلك سبباً لمن يخلفهم على اللغة إلى استبانة وجوه الإعجاز، ومن البيِّن أن أخص أسباب الارتقاء كائن في الغَلبة، والتميز والانفراد حيث وُجدت، فلو جاء القرآن مثل كلام العرب في الطريقة والمذهب، وفي الصفة والمنزلة، لما صَلُحَ أن يكون سبباً لما أحدثه، ولذهب مع كلام العرب، ثم لتدافعته العصور والدول إن لم يذهب، ثم لبقي أمره كبعض ما ترى من الأمور الإنسانية؛ لا ينفرد ولا يستعلي. تختلف الألفاظ ولا تراها إلا متفقة، وتفترق ولا تراها إلا مجتمعة، وتذهب في طبقات البيان وتنتقل في منازل البلاغة، وأنت لا تعرف منها إلا روحاً تداخلُك بالطرب، وتُشرِب قلبكَ الروعة.

 إن طريقة نظم القرآن تجري على استواء واحد في تركيب الحروف باعتبار من أصواتها ومخارجها، وفي التمكين للمعنى بحس الكلمة وصفتِها، ثم الافتنان فيه بوضعها من الكلام، وباستقصاء أجزاء البيان وترتيب طبقاته على حسب مواقع الكلمات، لا يتفاوت ذلك ولا يختل، وإن من أعجب ما يحقق الإعجاز أن معاني هذا الكتاب الكريم لو ألبست ألفاظاً أخرى من نفس العربية، ما جاءت في نمطها وسمتها والإبلاغ عن ذات المعنى لا في حكم الترجمة، ولو تولى ذلك أبلغ بلغائها ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً؛ فقد ضاقت اللغة عنده على سعتها؛ حتى ليس فيها لمعانيه غير ألفاظه باعيانها وتركيبها، ومتى كانت المعارضة والترجمة سواء إلا في المعجز الذي يساوي بين القوى في المعجز وهي بعد في ذات بينها مختلفات؟

(فصل) البلاغة في القرآن 

لا سبيلَ من كتابنا هذا إلى بسط الكلام وتقسيمه فيما تضمنه القرآن من أنواع البلاغة التي نصَبَ لها العلماء أسماءها المعروفة: كالاستعارة والمجاز وغيرهما، فضلاً عن أنواع البديع الكثيرة؛ فإن ذلك يُخرج استخراجه من القرآن باباً مفرداً صنف فيه جماعة من العلماء المتأخرين (كالرازي وابن أبي الإصبع وابن القيم) (فضلا عما قدمه المتقدمون)كالرماني، والواسطي، والعسكري، والجرجاني، وغيرهم. ولسنا نقول إن القرآن جاء بالاستعارة لأنها استعارة أو بالمجاز لأنه مجاز، أو بالكناية لأنها كناية، أو ما يطردُ مع هذه الأسماء والمصطلحات إنما أريدَ به وضغ معجر في نسق ألفاظه وارتباط معانيه على وجوه السياستين من البيان والمنطق، فجرى على أصولهما في أرقى ما تبلغه الفطرة اللغوية على إطلاقها في هذه العربية، فهو يستعير حيث يستعير، ويتجوز حيث يتجوز، ويُطنِبُ ويُوجز ويؤكد ويعترض ويكرر إلى آخر ما أحصي في البلاغة ومذاهبها۔

الكتاب الثاني: الفصل الأول: البلاغة النبوية

رسول اللهصلي الله عليه وسلم -كان أفصح العرب، على أنه لا يتكلف القول، ولا يقصد إلى تزيينه، ولا يبغي إلیه وسيلة من وسائل الصنعة، ولا يجاوز به مقدار الإبلاغ في المعنى الذي يريده، ثم لا يعرض له في  ذلك سقَط ولا استكراه؛ ولا تستزله الفُجاءة وما يَبْدَه من أغراض الكلام عن الأسلوب الرائع، وعن النمط الغريب والطريقة المحكمة، بحيث لا يجد النظر إلى كلامه طريقاً يتصفح منه صاعداً أو منحدراً. وإن كان كلامهصلي الله عليه وسلم - لكما قال الجاحظ: " هو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونُزِّه عن التكلف. . استعمل المبسوط في موضع البسط؛ والمقصور في موضع القصر،  وهجر الغريب الوحشى، ورغب عن الهجين السوقي؛ فلم ينطق عن ميراث حكمه، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُف بالعصمة، وشُدَّ بالتأييد، يُسِّر بالتوفيق، وهذا الكلام الذي ألقى الله المحبة عليه وغشاه بالقبول، وجمع بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام هو مع استغنائه عن إعادته وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب. ولا نعلم أن هذه الفصاحة قد كانت لهصلي الله عليه وسلم - إلا توفيقاً من الله وتوقيفاً، إذ ابتعثه للعرب وهم قوم يقادون من ألسنتهم، ولهم المقامات المشهورة في البيان والفصاحة؛ ثم هم مختلفون في ذلك على تفاوت ما بين  طبقاتهم في اللغات آداب العرب، فمنهم الفصيح والأفصح، ومنهم الجافي والمضطرب، ومنهم ذو اللوثة والخالص في منطقه، إلى ما كان من اشتراك اللغات وانفرادها بينهم، وتخصص بعض القبائل بأوضاع وضيع مقصورة عليهم، لا يساهمهم فيها غيرهم من العرب، إلا من خالطهم أو دنا منهم دنو المأخذ. فكانصلي الله عليه وسلم - يعلم كل ذلك على حقه؛ كأنما تكاشفه أوضاع اللغة بأسرارها، وتبادره بحقائقها؛ فيخاطب كل قوم بلحنهم وعلى مذهبهم، ثم لا يكون إلا أفصحهم خطاباً، وأسدهم لفظاً، وأبينهم عبارة، ولم يعرف ذلك لغيره من العرب، ولو عرف لقد كانوا نقلوه وتحدثوا به واستفاض فيهم. (وقد) كانصلي الله عليه وسلم - في  اللغة القرشية التي هي أفصحُ اللغات وإلینها، بالمنزلة التي لا يدافع عليها، ولا ينافس فيها وكان من ذلك في أقصى النهاية، وإنما فضلهم بقوة الفطرة واستمرارها وتمكنها مع صفاء الحسق ونفاذ البصيرة واستقامة الأمر كله ولا يذهبنً عنك أن للنشأة اللغوية في هذا الأمر ما بعدها، وأن أكبر الشأن في اكتساب المنطق واللغة، للطبيعة والمخالطة والمحاكاة، ثم ما يكون من سمو الفطرة وقوتها فإنما هذه سبيله؛ يأتي من ورائها وهي الأسباب إلیه؛ وقد نشأ النبيصلي الله عليه وسلم - وتقلب في أفصح القبائل وأخلصها منطقاً، وأعذبها بياناً، فكان مولده في بني هاشم، وأخواله في بني زهرة، ورضاعه في سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، ومتزوجه في بني أسد، ومهاجرته إلى بني عمرو، وهم الأوس والخزرج من الأنصار، لم يخرج عن هؤلاء في النشأة واللغة؛ ولقد كان في قريش وبني سعد وحدهم ما يقوم بالعرب جملة، ولذا قالصلي الله عليه وسلم ": " أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد ابن بكر

صفته – صلي الله عليه وسلم -

ليس في التاريخ العربي كله مَن جُمعَتْ صفاته وأحصيت شمائله وتواتر النقل بذلك جميعه من طرق مختلفة على توثق إسنادها - غير النبيصلي الله عليه وسلم-، وهذا أصل لا يُعْدَلُ به شيء في بيان حقائق الأخلاق، والاستدلال على قوة الملكات، واستخرج الصفات النفسية التي حَصلَ من مجموعها أسلوبُ الكلام على هيئته وجهته، وانفراد بما عسى أن يكون منفرداً به، أو شارك فيما عسى أن يكون مشاركاً فيه؛ وعلى هذه الجهة نأتي بطرف من صفتهصلي الله عليه وسلم   -ومما ورد في وصفه ووصف منطقه مختصرا بعد حذف الأسانيد أنه كان:) فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب،  عظيم الهامة، رجل الشعر، إن انفرقت عقيصته فرق وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم كث اللحية سهل الخدين ضليع الفم أشنب مفلج الأسنان دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادنا متماسكا، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعإلی الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة سبط القصب شثن الكفين والقدمين، سائل الأطراف، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء إذا زال زال قلعا يخطو تكفيا ويمشي هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه يبدر من لقيه بالسلام متواصل الأحزان، طويل الفكرة، ليس له راحة لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتح كلامه ويختمه بأشداقه يتكلم بجوامع الكلم، فضل لا فضول ولا تقصير، دمث ليس بالجافي ولا المهين يعظم النعمة، وإن دقت، لا يذم منها شيئا لا يذم ذواقا ولا يمدحه (و) لم يكن ذواقا، ولا مدحة ولا تغضبه الدنيا، وما كان لها وإذا تعوطى الحق، لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب براحته إلیمنى باطن إبهامه إلیسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام. وإذا رَجعتَ النظر في تلك الصفات الكريمة واعتبرتها بآثارها ومعانيها رأيت كيف يكون الأساس الذي تُبنى عليه فراسةُ الكمال في نوع الإنسان من دلالة الظاهر على الباطل، وتحصيل الحقيقة النفسية التي هي بطبيعتها روحُ الإنسان في أعماله، أو أثرُ هذه الروح، أو بقيةُ هذا الأثر.

إحكام منطقه -  صلي الله عليه وسلم-

قد رأيت فيما مر من صفته عليه الصلاة والسلام أنه ضليع الفم، يفتح الكلام ويختمه بأشداقه، وعلمت من معنى ذلك أنه كان يستعمل جميع فمه إذا تكلم، لا يقتصر على تحريك الشفتين فحسب. ولقد كانت العرب تتمادَح بسعة الفم وتذم بصغره، لأن السعة أدل على امتلاء الكلام، وتحقيق الحروف وجهارةِ الأداء وإشباع ذلك في الجملة، ولأن طبيعة لغتهم ومخارج حروفها تقتضي هذا كله ولا تحسُنُ في النطق إلا به، ولا تبلُغ تمامها إلا أن يبلغ فيها، وهو بعد مزيتها الظاهرة في أفصح أسإلیبها. فكانت محاسن هذا الباب في النبيصلي الله عليه وسلم - طبيعة كما رأيت، لأنها عن أسباب طبيعية، وقد وصفوه مع ذلك بحسن الصوت وهو تمامها وحليتُها. فلا جرمَ كان منطقهصلي الله عليه وسلم - على أتم ما يتفق في طبيعة اللغة ويتهيأ لها إحكام الضبط وإتقان الأداء: لفظَ مشبعَ، ولسانَ بليلَ، وتجويد فخمَ، ومنطق عذبَ، وفصاحة متأدية، ونظم متساوقَ وطبع يجمع ذلك كله، مع تثبت وتحفظ وتبيين وترسل وترتيل. وقد قالت عائشة رضي الله عنه : ما كان رسول الله -صلي الله عليه وسلم  - يَسرُدُ كسردِكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل، يحفظه من جلس إلیه. فإذا أضفت إلى ذلك أن نبيناصلي الله عليه وسلم - كان طويلَ السكوت، ولم يتكلم في غير حاجة، فإذا تكلم لم يَسردَ سَرداً، بل فصلَ ورتلَ وأبان وأحكم، بحيث يخرج كل لفظة وعليها طابعها من النفس - علمت أن هذا المنطق النبوي لا يكون بطبيعة إلا على الوجه الذي بسطناه آنفاً، وأنه بذلك قد جمع خصالاً من إحكام الأداء، لا يشاركه فيها منطق أحد إلى حد، ولا تتوافى إلى غيره ولا تتساوى في سواه.

اجتماع كلامه وقلته – صلي الله عليه وسلم  -

ومن كمال تلك النفس العظيمة، وغلبَةِ فكره -صلي الله عليه وسلم - على لسانه قل كلامه وخرج قصداً في ألفاظه، محيطاً بمعانيه، تحسب النفس قد اجتمعت في الجملة القصيرة والكلمات المعدودة بكل معانيها: فلا ترى من الكلام ألفاظاً ولكن حركات نفسية في ألفاظ، ولهذا كثرت الكلمات التي انفرد بها دون العرب، وكثرت جوامعُ كلِمه، كما ستعرفه، وخلص أسلوبه، فلم يقصر في شيء، ولم يبلغ في شيء، واتسق له من هذا الأمر على كمال الفصاحة والبلاغة ما لو أراده مريد لعجز عنه، ولو هو استطاع بعضه لما تم له في كل كلامه، لأن مجرى الأسلوب على الطبع، والطبع غالب مهما تشدد المرءُ وارتاض ومهما تثبت وبالغ في التحفظ. هذا إلى أن اجتماع الكلام وقلة ألفاظه، مع اتساع معناه وإحكام أسلوبه في غير تعقيد ولا تكلف، ومع إبانة المعنى واستغراق أجزائه، وأن يكون ذلك عادة وخلقاً يجري عليه الكلام في معنى معنى وفي باب باب - شيء لم يعرف في هذه اللغة لغيرهصلي الله عليه وسلم - على أنه لا يؤخذ مما قدمنا أنهصلي الله عليه وسلم - لم يكن يطيل الكلام إن رأى وجهاً للإطالة، فقد كان ربما فعل ذلك إن لم يكن منه بد، وقد روى أبو سعيد الخدري أنهصلي الله عليه وسلم - خطب بعد العصر فقال: " ألا إن الدنيا خضرة حلوة، ألا وإن الله مستخلفكم فيها فناظرٌ كيف تعلمون؛ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء! ألا لا يمنعهن رجلاً مخافة الناس أن يقول  الحق إذا علمه! ".

 قال أبو سعيد: ولم يزل يخطب حتى لم يبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف فقال: " إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى! ". قلنا: وهذه مدة لا تقدر في عرفنا بأقل من ساعتين، وحسبك بكلام من البلاغة النبوية يستوفيهما، بيد أن الإقلال كان الأعم الأغلب.

نفي الشعر عنه – صلي الله عليه وسلم -

ونحن نتمُّ القول فيما بدأ به الجاحظ آنفاً، من تنزيه النبي – صلي الله عليه وسلم -عن الشعر، وأنه لا ينبغي له، فإن الخبر في ذلك مكشوف متظاهر والروايات صحيحة متواترة، وقد قال الله تعالى:

 ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ﴾([12]).

فكان عليه الصلاة والسلام لا يتهدَّى إلى إقامة وزن الشعر إذا هو تمثل بيتاً منه بل يكسره ويتمثل البيت مكسوراً. فإنه على كونه أفصح العرب إجماعاً، لم يكن ينشد بيتاً تاماً على وزنه، إنما كان ينشد الصدر أو العجز فحسب؛ فإن ألقى البيت كاملاً لم يصحح وزنه بحال من الأحوال، وأخرجه عن الشعر فلا يَلتئم على لسانه. أنشد مرة صدر البيت المشهور للبيد، وهو قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل فصححه، ولكنه سكت عن عجزه (وكل نعيم لا مَحالة زائل). ولم تجر على لسانهصلي الله عليه وسلم - مما صح وزنه إلا ضربان من الرجز المنهوك والمشطور أما الأول فكقوله في رواية البَراء: إنه رأى النبيصلي الله عليه وسلم –

على بغلة بيضاء يوم أُحد ويقول:أنا النبى لا كذب أنا ابن عبدِ المطلب

والثاني كقوله في رواية جندب إنهصلي الله عليه وسلم -دَمِيَت أصبعه فقال:

هل أنت إلا إصبعٌ دميتِ  وفي سبيل الله ما لقيتِ وإنما اتفق له ذلك، لأن الرجز في أصله ليس بشعر إنما هو وزن؛ كأوزان السجع؛ وهو يتفق للصبيان والضعفاء من العرب، يتراجزون به في عملهم وفي لعبهم وفي سَوقِهم، ومثل هؤلاء لا يقال لهم شعراء، والذي عندنا، أنه - صلي الله عليه وسلم - لم يمنع إقامة وزنِ الشعر في إنشاده إلا لأنه منع من إنشائه، فلو استقام له وزن بيت واحد، لغلبت عليه فطرته القوية، فمرَّ في الإنشاد،  وخرج بذلك - لا محالة - إلى القول والاتساع وإلى أن يكون شاعراً، ولو كان شاعراً لذهب مذاهب العرب التي تبعث عليها طبيعة أرضهم ولتكلف لها، ونافس فيها، ثم لجاراهم في ذلك إلى غايته، حتى لا يكون دونهم فيما تُستوقِد له الحمية، وما هو من طبع المنافسة والمغالبة، وهذا أمر، كما ترى، يدفع بعضه إلى بعض، ثم لا يكون من جملته إلا أن ينصرف عن الدعوة، وعما هو أزكى بالنبوة وأشبه بفضائل القرآن، ولا من أن يتسعَ للعرب يومئذ بد، فيقرهم على شيء، ويجاريهم على شيء، وينقض شعره أمر القرآن عروة عروة، ولذا قال تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ.([13])

تأثيره في اللغة – صلي الله عليه وسلم -

قد علمت مما بسطناه في مواضع كثيرة، أن قريشاً كانوا أفصح العرب ألسنة، وأخلصهم لغة، وأعذبهم بياناً؛ وأنهم قد ارتفعوا عن لهجات رديئة اعترضت في مناطق العرب، فسلمت بذلك لغتهم، وإنَّما كان هؤلاء القوم أنضاد النبي– صلي الله عليه وسل  -من أعمامه وأهله وعشيرته، ثم علمت ما قلناه آنفاً في نشأته اللغوية، وما وصفناه من أمره فيها، وأن له في تلك رتبة بعيدة المصعد، فلا جَرَم كانصلي الله عليه وسلم - على حد  الكفاية في قدرته على الوضع، والشقيق من الألفاظ، وانتزاع المذاهب البيانية، حتى اقتضب ألفاظاً كثيرة لم تسمع من العرب قبله، ولم توجد في متقدم كلامها، وهي تعد من حسنات البيان، لم يتفق لأحد مثلها في حسن بلاغتها، وقوة دلالتها، وغرابة القريحة اللغوية في تإلیفها وتنضيدها، وكلها قد صار مثلاً، وأصبح ميراثاً خالداً في البيان العربي، كقوله: ماتَ حتف أنفه وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ما سمعتُ كلمة غريبة من العرب - يريد التركيب البياني - إلا وسمعتها من رسول الله- صلي الله عليه وسلم -، وسمعته يقول: " مات حتفَ أنفه " وما سمعتها من عربي قبله. ومثل ذلك قوله في الحرب: " الآن حميَ الوَطِيسفهذه واحدة في الأوضاع التركيبية. والثانية في الأوضاع المفردة، مما يكون مجازة مجاز الإيجاز والاقتضاب؛ وهذا الباب كانت تنصرف فيه العرب بالاشتقاق والمجاز، فتضع الألفاظ وتنقلها من معنى إلى معنى، غير أنها في أكثر ذلك إنما تتسع في شيء موجود ولا توجِد معدوماً؛ فلم يعرف لأحد من بلغائهم وضحع بعينه يكون هو انفرد به وأحدثه في اللغة ويكون العرب قد تابعوه عليه، إلا ما ندر لا يعد شيئاً؛ بخلاف المأثور عنهصلي الله عليه وسلم - في مثل ذلك، فهو كثير تعد منه الأسماء والمصطلحات الشرعية مما لم يرد في القرآن الكريم؛ ومنه ألفاظ كان العربُ أنفسهم يسألونه عنها ويعجبون لانفراده بها وهم عربٌ مثله؛ كما عجبوا لفصاحته التي اختص بها ولم يخرج من بين أظهرهم، كما روي من أنهصلي الله عليه وسلم - قال لأبي تَميمة الهُجَيمي: " إياك والمخيلةَ " فقال: يا رسول الله، نحن قوم عرب؛ فما المخيلة؟ فقال عليه الصلاة  والسلام:، سَبلُ الإزار " وليس ذلك بأعجب من مخاطبته وفود العرب بما كان لهم من اللغات والأوضاع الغريبة التي لا تعرفها قريش من لغتها، ولا تتهدَّى إلى معانيها، ولا يعرفها بعضُ العرب عن بعض، ثم فَهمه عنهم مثل ذلك على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، حتى قال له علي رضي الله عنه وقد سمعه يخاطب وفدَ بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره! فقال عليه الصلاة والسلام: "  أدبني ربي فأحسنَ تأديبي ".

لماذا كانت تلك فطرته اللغوية، في تمكنها، وشدتها، واستحصافها، وسبيلها إلى الإلهام؛ وانطوائها على أسرار الوضع؛ فانظر ما عسى أن يحدث من مبلغ أثرها في اللغة وضعاً واشتقاقاً واستجازة وتقليباً، وما عسى أن يبلغ القول في مظاهرها من مخارج الكلام ووجه إرساله وإحكام تنضيده واجتماع نسقه؛ ثم تدبر ما عسى أن تكون جملة ذلك قد أثرت في العرب ومناطقها وأسإلیبها.

نسق البلاغة النبويَّة

قد قلنا في بيان أسلوب كلامهصلي الله عليه وسلم -، أنه أسلوب منفرد في هذه اللغة، قد بان من غيره بأسباب طبيعية فيه، وأن ما أشبهه من بلاغة الناس في الكلمات القليلة والجمل المقتَضبَةِ، لا يشبهه في العبارة  المبسوطة، ولا يستوي له الشبه مع ذلك في كل قليل ولا في كل مقتَضَب، حتى يقع التنظير بين الأسلوبين على الكفاية، وحتى يميل الحكم إلى الجزم بأن بعض ذلك كبعضه: بلاغة ونسقاً وبياناً. ونحن الآن قائلون في نسق هذا الأسلوب؛ ليتأدَّى بك القول إلى صميم مذهبه، وينتظم هذا القول بعضه ببعض. إذا نظرت فيما صح نقله من كلام النبيصلي الله عليه وسلم - على جهة الصناعتين اللغوية والبيانية، رأيته في الأولى مُسددَ اللفظ مُحكم الوضع جزل التركيب. متناسِب الأجزاء في تإلیف الكلمات: فخم الجملة واضح الصلة بين اللفظ ومعناه واللفظ وضريبه في التإلیف والنسق، ثم لا ترى فيه حرفاً مضطرباً؛ ولا لفظة مستدعاة لمعناها أو مستكرهة عليه؛ ولا كلمة غيرُها أتم منها أداة للمعنى وتأتياً لسره في الاستعمال؛ ورأيته في الثانية حسن المعرِض، بين الجملة، واضحَ التفضيل، ظاهِرَ الحدود جيدَ الرصفِ، متمكن المعنى؛ واسع الحيلة في تصريفه، بديعَ الإشارة، غريب اللمحة، ناصع البيان، ثم لا ترى فيه إحالة ولا استكراهاً، ولا ترى اضطراباً ولا خطلاً، ولا استعانة من عجز، ولا توسعاً من ضيق، ولا ضعفاً في وجه من الوجوه.وكان له خاصة، من عظمة النفس، وكمال العقل، وثقوب الذهن ومن المنزعَة الجيدة، واللسان المتمكن - رأيت من جملة ذلك نسقاً في البلاغة قلما يتهيأ في مُثول أغراضه وتساوق معانيه لبليغ من البلغاء، على أن كلامهصلي الله عليه وسلم -  ليس مما تكلف له، ولا داخلته الصنعة، ولا كان يَتلوم على حَوكِهِ وسَردِه، ولكنه عَفوُ البديهة، ومساقطة الحديث، مما يجريه في مناقلةِ الكلام ومَساق المحاضرة، وأنه مع ذلك لعلى ما وصفنا وفوق ما وصفنا، فقد تراه وما يتفق فيه من الأوضاع التركيبية الغريبة، وتعرف أن ذلك شيء لم يتفق مثله في هذا الباب لشاعر ولا خطيب ولا كاتب على إطالة الرواية، ومراجعة الطبع، والغلؤ في الصنعة، وعلى أن لهم السبكَ الخالص والمعدنَ الصريح. والبيان الذي يتفجَّر في الألسنة لرقته وعذوبته واطراده.

الخلوص والقصد والاستيفاء

نسق البلاغة النبوية يمتاز في جملته بأنه ليس من شيء أنت واجده في كلام الفصحاء وهو معدود من ضروب الفصاحة ومتعلقاتها - إلا وجدته في هذا النسق على مقدار من الاعتبار يفرِدهُ بالميزةِ، ويخصه بالفضيلة، لأن كلامه – صلی الله عليه وسلم -في باب التمكين لا يَعدِله شيء من كلام الفصحاء. إذ هو مبني على ثلاثة الخلوص، والقصد، والاستيفاء.

أما الأول فهو في اللغة ما علمت وفي الأسلوب ما عرفت مما وقفناك  عليه وهو منفرد فيهما جميعاً، لأنه لم يكن في العرب ولن يكون فيمن بعدهم أبدَ الدهر من ينفذُ في اللغة وأسرارها وضعاً وتركيباً، ويستعبدُ اللفظ الحر، ويحيط بالعتيق من الكلام، ويبلغ من ذلك إلى الصميم على ما كان من شأنهصلي الله عليه وسلم -، ولا نعرف في الناس من يتهيأ له الأسلوب العصبى الجامعُ المجتمعُ على توثق السرد وكمال الملاءمة، كما تراه في الكلام النبوي، وما من فصيح أو بليغ إلا وهو في إحدى هاتين  المنزلتين دون ما يكون في الأخرى على ما يلحقه من النقص فيهما جميعاً إذا تصفحتَ وجوهَ كلامه وضروب الفصاحة فيه، واعتبرت ذلك بما سلف؛ وأبلغُ الناس من وفق أن يكون في المنزلة الوسطى بين منزلتيه– صلي الله عليه وسلم -

وأما القصدُ والإيجاز والاقتصار على ما هو من طبيعة المعنى في ألفاظه ومن طبيعة الألفاظ في معانيها. ومن طبيعة النفس في حظها من الكلام وجهتيهِ (اللفظية والمعنوية) - فذلك مما امتازت به البلاغة النبوية حتى كان الكلام لا يعدو فيها حركةَ النفس، وكان الجملة تخلق في منطقه – صلي الله عليه وسلم - خَلقاً سوياً، أو هي تنزع من نفسه انتزاعاً، وهذا عجيب حتى ما يمكن أن يعطيهُ امرؤ حظه من التأمل إلا أعطاه حظ نفسه من العجب، وإنَّما تتم في بلاغتهصلي الله عليه وسلم –

الأمر الثالث: وهو الاستيفاء، الذي يخرج به الكلام - على حذف فضوله وإحكامه ووجازَته  مبسوط المعنى باجزائه ليس فيها خداج ولا إحالة ولا اضطراب حتى كان تلك الألفاظ القليلة إنما ركبت تركيباً على وجه تقتضيه طبيعة المعنى في نفسه، وطبيعته في النفس، فمتى وعاها السامع واستوعبها القارئ، تمثل المعنى وأتمه في نفسه، في حسب ذلك التركيب، فوقع إلیه تاماً مبسوط الأجزاء، وأصاب هو من الكلام معنى جموماً لا ينقطع به ولا يكبو دون الغاية، كأنما هذا الكلام قد انقلب في نفسه إحساساً لنظر معنوي. وهذا ضرب من التصرف بالكلام في أخلاق النفوس الباطنة التي تذعن لها النفوس وتتصرف معها، وقلما يستحكم لامرئ إلا بتأييد من الله وتمكين من اليقين والحجة فهو على حقيقته مما لا تعين عليه الدُّربة والمزاولة إلا شيئاً يسيراً لا يستوفي هذه الحقيقة.

 

 

الفصل الثاني: وحي القلم

إن الأديب البارع المفكر مصطفى صادق الرافعي رحمه الله ، كان صاحب قلم سيال ، وفكر أصيل ، فقد دافع عن الإسلام ، وعن القرآن ، وردَّ على شبهات المستغربين مثل طه حسين وغيره ممن تأثروا بالحضارة الغربية العفنة .وردَّ على هؤلاء بقوة ، ولاسيما في كتابه النفيس’’ تحت راية القرآن‘‘ .

أما كتابه ’’ وحي القلم ‘‘ فهو عبارة عن مجموعة كبيرة من القصص الواقعية والرمزية أحياناً والحكم والأمثال ، والخواطر التي مرت به رحمه الله . الان أقدم تلخيص هذا الكتاب أولا أذكر مباحث هذا الكتاب ثم تقريظها حسب المباحث۔

نبذة عن محتوى الكتاب

"وحي القلم" عمل أدبي لمصطفى صادق الرافعي، ويعتبر من أجمل ما كتبه، و هو عبارة عن مجموعة من مقالاته النقدية والإنشائية، تتناول مواضيع اجتماعية وأخرى عن الوصف والحب، كما فيه مواضيع توضح ما التبس من حقائق الإسلام وآدابه وخلفياته وبعض جمإلیات القرآن، ينتزع من الدنيا حقائقها، ويرسلها ضمن نصوص صيغت بصيغة القصة التي تلفت نظر القارئ إلى المغزى.

يجمع الكتاب كل خصائص الرافعي الأدبية متميزة بوضوح في أسلوبه، فمن شاء أن يعرف الرافعي عرفان الرأي والفكرة والمعاشرة فليعرفه في هذا الكتاب.

يتكون الكتاب من ثلاثة أجزاء:

الجزء الأول (346 ص) يضم 40 مقالة منها: الیمامتان، المعنى السياسي في العيد، الربيع، في الربيع الأزرق (البحر)، أحلام في الشارع، سمو الحب، قصة زواج وفلسفة المهر، زوجة إمام، قبحٌ جميل، فلسفة الطائشة، أرملة حكومة (ويقصد الرجل العازب)، بنته الصغيرة ( قصة توبة مالك بنت دينار)، رؤية في السماء (تبين فضل وبركة السعي على العيال يوم القيامة)، الجمال البائس، عربة اللقطاء...

الجزء الثاني (350 ص) يتكون من 46 مقالة منها: حقيقة المسلم، سمو الفقرفي المصلح الاجتماعي الأعظم، شهر للثورة فلسفة الصيام، قلت لنفسي وقالت لي، الانتحار ( 6 أجزاء وتعرض أمثلة من الذين وسوست لهم أنفسهم بالانتحار عندما اسودت الدنيا في أعينهم، وينقدح نور الله في قلوبهم فتهب من غفلتها وهي تصيح: الله أكبر من الدنيا...)، موت أمٍّ، إبليس يُعلِّم، تاريخ يتكلم، قصة الأيدي المتوضئة، المعجم السياسي، المجنون...

الجزء الثالث (392 ص) يتكون من 45 مقالة منها: قرآن الفجر، أمراء للبيع، العجوزان، عاصفة القدر، القلب المسكين، انتصار الحب، شيطان وشيطانة، صعاليك الصحافة، حافظ إبراهيم، البؤساء، الملاح التائه، أبو حنيفة ولكن بغير فقه، المرأة والميراث، كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة...

مختارات من الكتاب

يقول الكاتب في صدر الكتاب وأخاله يتكلم عن مقالاته:

لا وجود للمقالات البيانية إلا في المعاني التي اشتملت عليها... ونقل حقائق الدنيا نقلا صحيحا إلى الكتابة أو الشعر هو انتزاعها من الحياة وإظهارها للحياة في أسلوب آخر يكون أوفى وأدق وأجمل... وتلك هي الصناعة الفنية الكاملة: تستدرك النقص فتتمه وتتناول السر فتعلنه، وتلمس المقيد فتطلقه وتأخذ المطلق فتحده وتكشف الجمال فتظهره.

في الربيع الأزرق 

لا تتم فائدة الانتقال من بلد إلى بلد إلا إذا انتقلت النفس من شعور إلى شعور، فإذا سافر معك الهم فأنت لم تبرح.([14])

بنته الصغيرة

إن للمؤمن ظنين: ظنا بنفسه وظنا بربه، فأما ظنه بنفسه فينبغي أن ينزل بها دون جمحاتها ولا يفتأ ينزل، فإذا رأى لنفسه أنها لم تعمل شيئا أوجب عليها أن تعمل فلا يزال دائما يدفعها، وكلما أكثرت من الخير قال لها أكثري، وكلما أقلت من الشر قال لها أقلي ولا يزال هذا دأبه ما بقي

وأما الظن بالله فينبغي أن يعلو به فوق الفترات والعلل والآثام، ولا يزال يعلو فإن الله عند ظن عبده به، إن خيرا فله وإن شرا فله... والإنسان عند الناس بهيئة وجهه وحليته التي تبدو عليه، ولكنه عند الله بهيئة قلبه وظنه الذي يظن به، وما هذا الجسم من القلب إلا كقشرة البيضة مما تحتها.

ليس حفظ القرآن في العقل بل حفظه في العمل به، فإن أنت أتيت الآية منه وكنت تعمل بغير معناها وتعيش في غير فضيلتها، فهذا ويحك نسيانها لا حفظها... وفد كان قومنا الأولون بمعانيه كالشجرة الخضراء النامية فيها ورقها الأخضر وزهرها، وعلى ظاهرها حياة باطنها فلما ثبت الناس على الشكل وحده ولم يبالوا بالقلب وأحواله أصبحوا كالشجرة إلیابسة عليها ورقها الجاف ليس في بقائه ولا سقوطه طائل.

إنما السعيد من يختار فيما يعمل أحسن ما يعمل، ومن ثم لا يكون جهاده في سبيل الوجود كالحيوان بل في صحة وجوده وفي شرف الحياة لا الحياة نفسها...والشقاء في هذه الدنيا إنما يجره على الإنسان أن يعمل في دفع الأحزان عن نفسه بمقارفته الشهوات وبإحساسه غرور القلب، وبهذا يبعد الأحزان عن نفسه ليجلبها على نفسه في صور أخرى.([15])

الانتحار

والنفس وحدها كنز عظيم وفيها وحدها الفرح والابتهاج لا في غيرها، وما لذات الدنيا إلا وسائل لإثارة هذا الفرح وهذا الابتهاج، فإن وُجدا مع الفقر بطلت عزة المال وأصبح حجرا من الأحجار، والبلبل يتغرد بحنجرته الصغيرة ما لا تغني فيه آلات التطريب كلها... وفي النفس حياة ما حولها فإذا قويت هذه النفس أذلت الدنيا وإذا ضعفت أذلتها الدنيا([16])

قرآن الفجر

كنت في العاشرة من سني وقد جمعت القرآن كله وجودته بأحكام القراءة... وذهبت ليلة فبتُّ عند أبي في المسجد (إحدى الليإلی العشر الأخيرة من رمضان)...لا أنسى أبدا تلك الساعة. وقد انبعث في جو المسجد صوت غرد رخيم يشق سُدفة (ظلمة) الليل في مثل رنين الجرس تحت الأفق العالی وهو يرتل أواخر سورة النحل: " اٌدع إلى سبيل ربك... واصبر وما صبرك إلا بالله...". وسمعنا القرآن غضا طريا كأول ما نزل به الوحي...وكنا نسمع قرآن الفجر وكأنما مُحيت الدنيا التي في الخارج من المسجد وبطُل باطلها، فلم يبق على الأرض إلا الإنسانية الطاهرة ومكان العبادة، وهذه هي معجزة الروح متى كان الإنسان في لذة روحه مرتفعا على طبيعته الأرضية.

أما الطفل الذي كان فيَّ يومئذ فكأنما دُعي بكل ذلك ليحمل هذه الرسالة ويؤديها إلى الرجل الذي يجئ فيه من بعد، فأنا في كل حالة أخضع لهذا الصوت: "ادع إلى سبيل ربك..."، وأنا في كل ضائقة أخشع لهذا الصوت: "وما صبرك إلا بالله..."([17])

ان الرافعي رحمه الله يخاطبنا اليوم والمسلمون في فلسطين خاصة وفي غيرها عامة يمرون بمحنن شديدة ، فمدوا لهم يد المساعدة والعون ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ’’ مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ فِى عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِى عَوْنِ أَخِيهِ ‘‘.([18])

حاول الكثيرون ممن لهم مصالح في انسلاخ الأمة العربية من جلدها إهالة التراب على هذا الرجل وعلى أدبه؛ لأنه آثر الأصالة والإسلام والمروءة، ولأنه لم ينافق في أدبه ولم يداهن، ولم يبتغ إلا ارتقاء هذا الدين واللغة التي أنزل بها.

إن هناك أديبًا عاش مدافعًا عن العربية والإسلام طيلة حياته، ولم يجد من أمته إلا التجاهل والتناسي غمطًا لحق، ومحاولة لطمس معالم أديب اسمه "مصطفي صادق الرافعي".

فقد عاش الرافعي ما عاش يكتب لنفسه وينشر لنفسه، لا يعنيه مما يكتب وينشر إلا أن يُحيل فكرة في رأسه أو لمحة في خاطره أو خفقة في قلبه، إلى تعبير في لسانه أو معنى في ديوانه، ولا عليه بعد ذلك أن يتأدى معناه إلى قارئه كما أراده أو يُغلق دونه، فلما اتصل سببه بمجلة "الرسالة" رأى لقارئه عليه حقًّا أكثر من حق نفسه، فكان أسلوبه الجديد الذي أنشأ به الكتاب.

 فمن شاء أن يقرأ ما كتب الرافعي ليتذوق أدبه فيأخذ عنه أو يحكم عليه، فليستوثق من نفسه قبلُ، ويستكمل وسائله، فإن اجتمعت له أداته من اللغة والذوق البياني، وأحس إحساس النفس العربية المسلمة فيما تحب وما تكره وما يخطر في أمانيها؛ فذوقه ذوق وحكمه حكم، وإلا فليُسقط الرافعي من عداد من يقرأ لهم، أو فليسقط نفسه من عداد هذه الأمة۔([19])

والكتاب كما يشعر به عنوانه، هو مجموعة فصول ومقالات وقصص، من وحي القلم وفيض الخاطر في ظروف متباينة ، إن هذا الكتاب يجمع كل خصائص الرافعي الأدبية متميزة بوضوح في أسلوبه، كذلك أقول هنا: إنه يجمع كل خصائصه العقلية والنفسية متميزة بوضوح في موضوعه، ففيه خلقه ودينه، وفيه شبابه وعاطفته، وفيه تزمته ووقاره، وفيه فكاهته ومرحه، وفيه غضبه وسخطه، فمن شاء أن يعرف الرافعي عرفان الرأي والفكرة والمعاشرة فليعرفه في هذا الكتاب.

تلخيص الكتاب حسب المباحث

صدر الكتاب البيان

يقول الرافعي في مقدمة كتاب ’’وحي القلم ‘‘:

لا وجود للمقالة البيانية إلا في المعاني التي اشتملت عليها يقيمها الكاتب على حدود ويديرها على طريقة، مصيبًا بألفاظه مواقع الشعور، مثيرًا بها مكامن الخيال، آخذًا بوزن تاركًا بوزن لتأخذ النفس كما يشاء وتترك.

ونقل حقائق الدنيا نقلًا صحيحًا إلى الكتابة أو الشعر، هو انتزاعها من الحياة في أسلوب وإظهارها للحياة في أسلوب آخر يكون أوفى وأدق وأجمل، لوضعه كل شيء في خاص معناه وكشفه حقائق الدنيا كشفة تحت ظاهرها الملتبس. وتلك هي الصناعة الفنية الكاملة؛ تستدرك النقص فتتمه، وتتناول السر فتعلنه، وتلمس المقيد فتطلقه، وتأخذ المطلق فتحده، وتكشف الجمال فتظهره، وترفع الحياة درجة في المعنى وتجعل الكلام كأنه وجد لنفسه عقلًا يعيش به.

فالكاتب الحق لا يكتب ليكتب؛ ولكنه أداة في يد القوة المصورة لهذا الوجود، تُصوِّر به شيئًا من أعمالها فنًّا من التصوير. الحكمة الغامضة تريده على التفسير، تفسير الحقيقة؛ والخطأ الظاهر يريده على التبيين، تبيين الصواب؛ والفوضى المائجة تسأله الإقرار، إقرار التناسب؛ وما وراء الحياة، يتخذ من فكره صلة بالحياة؛ والدنيا كلها تنتقل فيه مرحلة نفسية لتعلو به أو تنزل. ومن ذلك لا يخلق الملهم أبدًا إلا وفيه أعصابه الكهربائية، وله في قلبه الرقيق مواضع مهيأة للاحتراق تنفذ إلیها الأشعة الروحانية، وتتساقط منها بالمعاني.([20])

المجلد الأول

المبحث الأول: الیمامتان
 ذكر فيه القصة أرمانوسة المصرية وقال

جاء في تاريخ الواقدي "أن "المقوقس" عظيم القبط في مصر، زوج بنته "أرمانوسة" من "قسطنطين بن هرقل" وجهزها بأموالها حشمًا لتسير إلیه، حتى يبني عليها في مدينة قيسارية؛ فخرجت إلى بلبيس وأقامت بها وجاء عمرو بن العاص إلى بلبيس فحاصرها حصارًا شديدًا، وقاتل من بها، وقتل منهم زهاء ألف فارس، وانهزم من بقي إلى المقوقس، وأخذت أرمانوسة وجميع ما لها، وأخذ كل ما كان للقبط في بلبيس. فأحب عمرو ملاطفة المقوقس، فسير إلیه ابنته مكرمة في جميع ما لها، "مع قيس بن أبي العاص السهمي"؛ فسُرَّ بقدومها".

 هذا ما أثبته الواقدي في روايته، ولم يكن معنيًّا إلا بأخبار المغازي والفتوح، فكان يقتصر عليها في الرواية؛ ثم قال :

كانت لأرمانوسة وصيفة مولدة تسمى "مارية"، ذات جمال يوناني أتمته مصر ومسحته بسحرها، فزاد جمالها على أن يكون مصريا، ونقص الجمال إلیوناني أن يكونه؛ فهو أجمل منهما، ولمصر طبيعة خاصة في الحسن؛ فهي قد تخمل شيئًا في جمال نسائها أو تشعث منه، وقد لا توفيه جهد محاسنها الرائعة؛ ولكن متى نشأ فيها جمال ينزع إلى أصل أجنبي أفرغت فيه سحرها إفراغًا، وأبت إلا أن تكون الغالبة عليه، وجعلته آيتها في المقابلة بينه في طابعه المصري، وبين أصله في طبيعة أرضه كائنة ما كانت؛ تغار على سحرها أن يكون إلا الأعلى.

وكانت مارية هذه مسيحية قوية الدين والعقل، اتخذها المقوقس كنيسة حية لابنته، وهو كان وإلیا وبطريركًا على مصر من قبل هرقل؛ وكان من عجائب صنع الله أن الفتح الإسلامي جاء في عهده، فجعل الله قلب هذا الرجل مفتاح القفل القبطي، فلم تكن أبوابهم تدافع إلا بمقدار ما تدفع، تقاتل شيئًا من القتال غير كبير، أما الأبواب الرومية فبقيت مستغلقة حصينة لا تذعن إلا للتحطيم، ووراءها نحو مائة ألف رومي يقاتلون المعجزة الإسلامية التي جاءتهم من بلاد العرب أول ما جاءت في أربعة آلاف رجل، ثم لم يزيدوا آخر ما زادوا على اثني عشر ألفًا. كان الروم مائة ألف مقاتل بأسلحتهم -ولم تكن المدافع معروفة- ولكن روح الإسلام جعلت الجيش العربي كأنه اثنا عشر ألف مِدْفَع بقنابلها، لا يقاتلون بقوة الإنسان، بل بقوة الروح الدينية التي جعلها الإسلام مادة منفجرة تشبه الديناميت قبل أن يُعرَف الديناميت!

ولما نزل عمرو بجيشه على بلبيس، جزعت مارية جزعًا شديدًا؛ إذ كان الروم قد أرجفوا أن هؤلاء العرب قوم جياع ينفضهم الجدب على البلاد نفض الرمال على الأعين في الريح العاصف؛ وأنهم جراد إنساني لا يغزو إلا لبطنه؛ وأنهم غلاظ الأكباد كالإبل التي يمتطونها؛ وأن النساء عندهم كالدواب يُرتبطْنَ على خَسْف؛ وأنهم لا عهد لهم ولا وفاء، ثَقُلت مطامعهم وخَفَّت أمانتهم؛ وأن قائدهم عمرو بن العاص كان جزَّارًا في الجاهلية، فما تدعه روح الجزار ولا طبيعته؛ وقد جاء بأربعة آلاف سالخ من أخلاط الناس وشذاذهم، لا أربعة آلاف مقاتل من جيش له نظام الجيش!

وتوهمت مارية أوهامها، وكانت شاعرة قد درست هي وأرمانوسة أدب يونان وفلسفتهم، وكان لها خيال مشبوب متوقد يشعرها كل عاطفة أكبر مما هي، ويضاعف الأشياء في نفسها، وينزع إلى طبيعته المؤنثة، فيبالغ في تهويل الحزن خاصة، ويجعل من بعض الألفاظ وقودًا على الدم.

 قالت أرمانوسة: إن العلماء بهيئة السماء وأجرامها وحساب أفلاكها، ليسوا هم الذين يشقون الفجر ويُطلعون الشمس؛ وأنا أرى أنه لا بد من أمة طبيعية بفطرتها يكون عملها في الحياة إيجاد الأفكار العلمية الصحيحة التي يسير بها العالم، وقد درست المسيح وعمله وزمنه، فكان طيلة عمره يحاول أن يوجد هذه الأمة، غير أنه أوجدها مصغرة في نفسه وحوارييه، وكان عمله كالبدء في تحقيق الشيء العسير؛ حسبه أن يثبت معنى الإمكان فيه.

 قالت مارية: إن هذا والله لسر إلهي يدل على نفسه؛ فمن طبيعة الإنسان ألا تنبعث نفسه غير مبإلیة الحياة والموت إلا في أحوال قليلة، تكون طبيعة الإنسان فيها عمياء؛ كالغضب الأعمى، والحب الأعمى، والتكبر الأعمى؛ فإذا كانت هذه الأمة الإسلامية كما قلتِ منبعثة هذا الانبعاث، ليس فيها إلا الشعور بذاتيتها العإلیة، فما بعد ذلك دليل على أن هذا الدين هو شعور الإنسان بسموّ ذاتيته، وهذه هي نهاية النهايات في الفلسفة والحكمة.

وجعلت هذه الحقائق الإسلامية وأمثالها تُعرّب هذا العقل الیوناني؛ فلما أراد عمرو بن العاص توجيه أرمانوسة إلى أبيها، وانتهى ذلك إلى مارية قالت لها: لا يجمل بمن كانت مثلك في شرفها وعقلها أن تكون كالأخِيذة، تتوجه حيث يُسار بها؛ والرأي أن تبدئي هذا القائد قبل أن يبدأكِ؛ فأرسلي إلیه فأعلميه أنك راجعة إلى أبيك، واسإلیه أن يُصحبك بعض رجاله؛ فتكوني الآمرة حتى في الأسر، وتصنعي صنع بنات الملوك.

قالت أرمانوسة: فلا أجد لذلك خيرًا منك في لسانك ودهائك؛ فاذهبي إلیه من قِبَلي، وسيصحبك الراهب "شطا"، وخذي معك كوكبة من فرساننا.

اجتلاء العيد

جاء يوم العيد، يوم الخروج من الزمن إلى زمن وحده لا يستمر أكثر من يوم.

زمن قصير ظريف ضاحك، تفرضه الأديان على الناس؛ ليكون لهم بين الحين والحين يوم طبيعي في هذه الحياة التي انتقلت عن طبيعتها.کما قیل عن یوم العید :

يوم السلام، والبشر، والضحك، والوفاء، والإخاء، وقول الإنسان للإنسان: وأنتم بخير.

يوم الثياب الجديدة على الكل؛ إشعارًا لهم بأن الوجه الإنساني جديد في هذا اليوم.

يوم الزينة التي لا يراد منها إلا إظهار أثرها على النفس ليكون الناس جميعًا في يوم حب.يوم العيد؛ يوم تقديم الحلوى إلى كل فم لتحلو الكلمات فيه.

يوم تعم فيه الناس ألفاظ الدعاء والتهنئة مرتفعة بقوة إلهية فوق منازعات الحياة.

ذلك اليوم الذي ينظر فيه الإنسان إلى نفسه نظرة تلمح السعادة، وإلى أهله نظرة تبصر الإعزاز، وإلى داره نظرة تدرك الجمال، وإلى الناس نظرة ترى الصداقة.

ومن كل هذه النظرات تستوي له النظرة الجميلة إلى الحياة والعالم؛ فتبتهج نفسه بالعالم والحياة.وما أسماها نظرة تكشف للإنسان أن الكل جماله في الكل!وخرجتُ أجتلي العيد في مظهره الحقيقي على هؤلاء الأطفال السعداء.على هذه الوجوه النضرة التي كبِرَت فيها ابتسامات الرضاع فصارت ضحكات.وهذه العيون الحالمة، الحالمة إذا بكت بكت بدموع لا ثقل لها.وهذه الأفواه الصغيرة التي تنطق بأصوات لا تزال فيها نبرات الحنان من تقليد لغة الأم.

 المعنى السياسي في العيد

ما أشد حاجتنا نحن -المسلمين- إلى أن نفهم أعيادنا فهمًا جديدًا، نتلقاها به ونأخذها من ناحيته، فتجيء أيامًا سعيدة عاملة، تنبه فينا أوصافها القوية، وتجدد نفوسنا بمعانيها، لا كما تجيء الآن كالحة عاطلة ممسوحة من المعنى، أكبر عملها تجديد الثياب، وتحديد الفراغ، وزيادة ابتسامة على النفاق.

فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في اليوم لا اليوم نفسه، وكما يفهم الناس هذا المعنى يتلقون هذا اليوم؛ وكان العيد في الإسلام هو عيد الفكرة العابدة، فأصبح عيد الفكرة العابثة؛ وكانت عبادة الفكرة جمعها الأمة في إرادة واحدة على حقيقة عملية، فأصبح عبث الفكرة جمعها الأمة على تقليد بغير حقيقة؛ له مظهر المنفعة وليس له معناها.

 ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأن فيها قوة تغيير الأيام۔

وليس العيد للأمة إلا يومًا تعرض فيه جمال نظامها الاجتماعي۔

وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف تتسع روح الجوار وتمتد، حتى يرجع البلد العظيم وكأنه لأهله دار واحدة يتحقق فيها الإخاء بمعناه العملي۔

وليس العيد إلا إظهار الذاتية الجميلة للشعب مهزوزة من نشاط الحياة؛ وإلا ذاتية للأمم الضعيفة؛ ولا نشاط للأمم المستعبدة.  

وليس العيد إلا إبراز الكتلة الاجتماعية للأمة متميزة بطابعها الشعبي، مفصولة من الأجانب، لابسة من عمل أيديها، معلنة بعيدها استقلإلین في وجودها وصناعتها، ظاهرة بقوتين في إيمانها وطبيعتها.

وليس العيد إلا التقاء الكبار والصغار في معنى الفرح بالحياة الناجحة المتقدمة في طريقها، وترك الصغار يلقون درسهم الطبيعي في حماسة الفرح والبهجة، ويعلِّمون كبارهم كيف توضع المعاني في بعض الألفاظ التي فَرَغَتْ عندهم من معانيها.

وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف توجه بقوتها حركة الزمن إلى معنى واحد كلما شاءت؛ فقد وضع لها الدين هذه القاعدة لتُخرِّج عليها الأمثلة، فتجعل للوطن عيدًا مإلیا اقتصاديًّا تبتسم فيه الدراهم بعضها إلى بعض. 

هذه المعاني السياسية القوية هي التي من أجلها فُرض العيد ميراثًا دهريًّا في الإسلام، ليستخرج أهل كل زمن من معاني زمنهم فيضيفوا إلى المثال أمثلة مما يبدعه نشاط الأمة، ويحققه خيالها، وتقتضيه مصالحها.

الربيع

خرجتُ أشهد الطبيعة كيف تُصبح كالمعشوق الجميل، لا يقدم لعاشقه إلا أسباب حبه!

وكيف تكون كالحبيب، يزيد في الجسم حاسة لمس المعاني الجميلة!

وكنتُ كالقلب المهجور الحزين وجد السماء والأرض، ولم يجد فيهما سماءه وأرضه.

ألا كم آلاف السنين وآلافها قد مضت منذ أُخرج آدم من الجنة!

ومع ذلك، فالتاريخ يعيد نفسه في القلب؛ لا يحزن هذا القلب إلا شعر كأنه طُرد من الجنة لساعته.يقف الشاعر بإزاء جمال الطبيعة، فلا يملك إلا أن يتدفق ويهتز ويطرَب.لأن السر الذي انبثق هنا في الأرض، يريد أن ينبثق هناك في النفس.

والشاعر نبي هذه الديانة الرقيقة التي من شريعتها إصلاح الناس بالجمال والخير.وكل حُسن يلتمس النظرة الحية التي تراه جميلًا لتعطيه معناه.وبهذا تقف الطبيعة محتفلة أمام الشاعر، كوقوف المرأة الحسناء أمام المصور.لاحت لي الأزهار كأنها ألفاظ حب رقيقة مغشاة باستعارات ومجازات.والنسيم حولها كثوب الحسناء على الحسناء، فيه تعبير من لابسته.

وكل زهرة كابتسامة، تحتها أسرار من معاني القلب المعقدة. ما أعجب سر الحياة! كل شجرة في الربيع جمال هندسي مستقل.

ومهما قطعتَ منها وغيرتَ من شكلها أبرزتها الحياة في جمال هندسي جديد كأنك أصلحتَها.

ولو لم يبق منها إلا جذر حي أسرعت الحياة فجعلت له شكلًا من غصون وأوراق.

الحياة الحياة، إذا أنت لم تفسدها جاءتك دائمًا هداياها.وإذا آمنت لم تعد بمقدار نفسك، ولكن بمقدار القوة التي أنت بها مؤمن.

﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ﴾ ([21]).

 وانظر كيف يجعل في الأرض معنى السرور، وفي الجو معنى السعادة.

عرش الورد

كانت جَلْوَة العروس كأنها تصنيف من حلم، توافت عليه أخيلة السعادة فأبدعت إبداعها فيه، حتى إذا اتسق وتم، نقلته السعادة إلى الحياة في يوم من أيامها الفردة التي لا يتفق منها في العمر الطويل إلا العدد القليل، لتحقق للحي وجود حياته بسحرها وجمالها، وتعطيه فيما يُنسَى ما لا يُنسى.

خرج الحلم السعيد من تحت النوم إلى الیقظة، وبرز من الخيال إلى العين، وتمثل قصيدة بارعة جعلت كل ما في المكان يحيا حياة الشعر؛ فالأنوار نساء، والنساء أنوار، والأزهار أنوار ونساء، والموسيقى بين ذلك تتمّم من كل شيء معناه، والمكان وما فيه، وزن في وزن، ونغم في نغم، وسحر في سحر.

ورأيت كأنما سُحر الربيع، فاجتمع في عرش أخضر، قد رُصِّع بالورد الأحمر، وأقيم في صدر البَهْو ليكون منصة للعروس، وقد نسقت الأزهار في سمائه وحواشيه على نظمين: منهما مفصل ترى فيه بين الزهرتين من اللون الواحد زهرة تخالف لونهما؛ ومنهما مكدس بعضه فوق بعض، من لون متشابه أو متقارب، فبدا كأنه عش طائر ملكي من طيور الجنة أبدع في نسجه وترصيعه بأشجار سقى الكوثر أغصانها.

وقامت في أرض العرش تحت أقدام العروسين، ربوتان من أفانين الزهر المختلفة ألوانه، يحملهما خَمْل من ناعم النسيج الأخضر على غصونه اللُّدْن تتهافت من رقتها ونعومتها.

سمو الحب

صاح المنادي في موسم الحج: "لا يُفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح" وكذلك كان يفعل خلفاء بني أمية؛ يأمرون صائحهم في الموسم، أن يدل الناس على مفتي مكة وإمامها وعالمها، ليلقوه بمسائلهم في الدين، ثم ليمسك غيره عن الفتوى، إذ هو الحجة القاطعة لا ينبغي أن يكون معها غيرها مما يختلف عليها أو يعارضها، وليس للحجج إلا أن تظاهرها وتترادف على معناها.

وجلس عطاء يتحين الصلاة في المسجد الحرام، فوقف عليه رجل وقال: يا أبا محمد، أنت أفتيت كما قال الشاعر:

سل المفتي المكي: هل في تزاوروضمة مشتاق الفؤاد جُنَاح؟

فقال: معاذ الله أن يذهب التقىتلاصق أكباد بهن جراح!

فرفع الشيخ رأسه وقال: والله ما قلت شيئًا من هذا، ولكن الشاعر هو نحلني هذا الرأي الذي نفثه الشيطان على لسانه، وإني لأخاف أن تشيع القالة في الناس، فإذا كان غد وجلست في حلقتي فاغد علي، فإني قائل شيئًا.

وذهب الخبر يؤُجُّ كما تؤج النار، وتعالم الناس أن عطاء سيتكلم في الحب، وعجبوا كيف يدري الحب أو يحسن أن يقول فيه من غَبَر عشرين سنة فراشه المسجد، وقد سمع من عائشة أم المؤمنين، وأبي هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عباس بحر العلم.

قال: وكان مجلسه في قصة يوسف عليه السلام، ووافقته وهو يتكلم في تأويل قوله تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾([22]).

قال عبد الرحمن: فسمعت كلامًا قدسيًّا تضع له الملائكة أجنحتها من رضى وإعجاب بفقيه الحجاز. حفظت منه قوله:

عجبًا للحب! هذه ملكة تعشق فتاها الذي ابتاعه زوجها بثمن بخس؛ ولكن أين مُلكها وسطوة ملكها في تصوير الآية الكريمة؟ لم تزد الآية على أن قالت: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي} و{الَّتِي} هذه كلمة تدل على كل امرأة كائنة من كانت؛ فلم يبق على الحب مُلك ولا منزلة؛ وزالت الملكة من الأنثى!

وأعجب من هذا كلمة {وَرَاوَدَتْهُ} وهي بصيغتها المفردة حكاية طويلة تشير إلى أن هذه المرأة جعلت تعترض يوسف بألوان من أنوثتها، لون بعد لون؛ ذاهبة إلى فن، راجعة من فن؛ لأن الكلمة مأخوذة من رَوَدَان الإبل في مشيتها؛ تذهب وتجيء في رفق. وهذا يصور حيرة المرأة العاشقة، واضطرابها في حبها؛ ومحاولتها أن تنفذ إلى غايتها؛ كما يصور كبرياء الأنثى إذ تختال وتترفق في عرض ضعفها الطبيعي كأنما الكبرياء شيء آخر غير طبيعتها؛ فمهما تتهالك على من تحب وجب أن يكون لهذا "الشيء الآخر" مظهر امتناع أو مظهر تحير أو مظهر اضطراب، وإن كانت الطبيعة من وراء ذلك مندفعة ماضية مصممة.

ثم قال: {عَنْ نَفْسِهِ} ليدل على أنها لا تطمع فيه، ولكن في طبيعته البشرية، فهي تعرض ما تعرض لهذه الطبيعة وحدها، وكأن الآية مصرحة في أدب سام كل السمو، منزه غاية التنزيه بما معناه: "إن المرأة بذلت كل ما تستطيع في إغرائه وتصبنيه، مقبلة عليه ومتدللة ومتبذلة ومنصبة من كل جهة، بما في جسمها وجمالها على طبيعته البشرية، وعارضة كل ذلك عرض امرأة خلعت -أول ما خلعت- أمام عينيه ثوب الملك".

ثم قال: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} ولم يقل "أغلقت" وهذا يشعر أنها لما يئست، ورأت منه محاولة الانصراف، أسرعت في ثورة نفسها مهتاجة تتخيل القفل الواحد أقفالًا عدة، وتجري من باب إلى باب، وتضطرب يدها في الأغلاق، كأنما تحاول سد الأبواب لا إغلاقها فقط.

{وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} ومعناها في هذا الموقف أن إلیأس قد دفع بهذه المرأة إلى آخر حدوده، فانتهت إلى حالة من الجنون بفكرتها الشهوانية، ولم تعد لا ملكة ولا امرأة، بل أنوثة حيوانية صرفة، متكشفة مصرحة، كما تكون أنثى الحيوان في أشد اهتياجها وغليانها.

هذه ثلاثة أطوار يترقى بعضها من بعض، وفيها طبيعة الأنوثة نازلة من أعلاها إلى أسفلها. فإذا انتهت المرأة إلى نهايتها ولم يبق وراء ذلك شيء تستطيعه أو تعرضه بدأت من ثم عظمة الرجولة السامية المتمكنة في معانيها، فقال يوسف: {مَعَاذَ اللَّهِ} ثم قال: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} ثم قال: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أن الآية الكريمة تريد ألا تنفي عن يوسف -عليه السلام- فحولة الرجولة، حتى لا يُظَن به، ثم هي تريد من ذلك أن يتعلم الرجال، وخاصة الشبان منهم، كيف يتسامون بهذه الرجولة فوق الشهوات، حتى في الحالة التي هي نهاية قدرة الطبيعة؛ حالة ملكة مطاعة فاتنة عاشقة مختلية متعرضة متكشفة متهالكة. هنا لا ينبغي أن ييأس الرجل، فإن الوسيلة التي تجعله لا يرى شيئًا من هذا، هي أن يرى برهان ربه.

وهذا البرهان يؤوله كل إنسان بما شاء، فهو كالمفتاح الذي يوضع في الأقفال كلها فيفُضها كلها؛ فإذا مثل الرجل لنفسه في تلك الساعة أنه هو وهذه المرأة منتصبان أمام الله يراهما، وأن أماني القلب التي تهجس فيه ويظنها خافية إنما هي صوت عالٍ يسمعه الله؛ وإذا تذكر أنه سيموت ويقبر، وفكر فيما يصنع الثرى في جسمه هذا، أو فكر في موقفه يوم تشهد عليه أعضاؤه بما كان يعمل، أو فكر في أن هذا الإثم الذي يقترفه الآن سيكون مرجعه عليه في أخته أو بنته، إذا فكر في هذا ونحوه رأى برهان ربه يطالعه فجأة، كما يكون السائر في الطريق غافلًا مندفعًا إلى هاوية، ثم ينظر فجأة فيرى برهان عينه؛ أترونه يتردى في الهاوية حينئذ، أم يقف دونها وينجو؟ احفظوا هذه الكلمة الواحدة التي فيها أكثر الكلام، وأكثر الموعظة، وأكثر التربية، والتي هي كالدرع في المعركة بين الرجل والمرأة والشيطان، كلمة {رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}.

قصة زواج وفلسفة المهر

قال رسول عبد الملك: ويحك "يا أبا محمد" لكأن دمك والله من عدوك؛ فهو يفور بك لتلج في العناد فتقتل، وكأني بك والله بين سَبُعين قد فغرا عليك؛ هذا عن يمينك وهذا عن يسارك، ما تفر من حتف إلا إلى حتف، ولا ترحمك الأنياب إلا بمخإلیبها.

ههنا هشام بن إسماعيل عامل أمير المؤمنين، إن دخلته الرحمة لك استوثق منك في الحديد، ورمى بك إلى دمشق، وهناك أمير المؤمنين، وما هو والله إلا أن يطعم لحمك السيف يعض بك عض الحية في أنيابها السم؛ وكأني بهذا الجنب مصروعًا لمضجعه، وبهذا الوجه مضرجًا بدمائه، وبهذه اللحية معفرة بترابها، وبهذا الرأس محتزًّا في يد "أبي الزعيزعة" جلاد أمير المؤمنين، يلقيه من سيفه رمي الغصن بالثمرة قد ثقلت عليه.

 قال الشيخ: روينا أن عمر "رضي الله عنه" كان ينهى عن المغالاة في الصداق، ويقول: "ما تزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا زوَّج بناته بأكثر من أربعمائة درهم"، ولو كانت المغالاة بمهور النساء مكرمة لسبق إلیها رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

وروينا عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خير النساء أحسنهن وجوهًا، وأرخصهن مهورًا".

 ولقد تزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعض نسائه على عشرة دراهم وأثاث بيت، وكان الأثاث: رحى يد، وجرة ماء، ووسادة من أدم حشوها ليف. 

وما الصداق في قليله وكثيره، إلا كالإيماء إلى الرجولة وقدرتها، فهو إيماء، ولكن الرجل قبْل. إن كل امرئ يستطيع أن يحمل سيفًا، والسيف إيماء إلى القوة، غير أنه ليس كل ذوي السيوف سواء، وقد يحمل الجبان في كل يد سيفًا، ويملك في داره مائة سيف، فهو إيماء، ولكن البطل قبْلُ، ولكن البطل قبْلُ.

أما من كتاب الله فقد قال الله تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾([23]). فهي زوجُه حين تجده هو لا حين تجد ماله؛ وهي زوجه حين تتممه لا حين تنقصه، وحين تلائمه لا حين تختلف عليه؛ فمصلحة المرأة زوجة ما يجعلها من زوجها، فيكونان معًا كالنفس الواحدة، على ما ترى للعضو من جسمه؛ يريد من جسمه الحياة لا غيرها.

ذيل القصة وفلسفة المال

ذهب الناس يمينًا وشمالًا فيما كتبناه من خبر الإمام سعيد بن المسيب وتزويجه ابنته من طالب علم فقير، بعد إذ ضن بها أن تكون زوجًا لولي عهد أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؛ وقد جعلت قلوب بعض النساء العصريات المتعلمات تصيح وتُوَلْوِل... وحدثنا أديب ظريف أن إحداهن سألت عن عنوان عبد الملك بن مروان!.

أفتُراها ستكتب إلیه أنها تقبل الزواج من ولي عهده؟

على أن للقصة ذيلًا، فإن الطبيعة الآدمية لا عصر لها، بل هي طبيعة كل عصر؛ والفضيلة الإنسانية يبدأ تاريخها من الجنة، فهي هي لا تتجدد ولا تزال تلوح وتختفي؛ أما الرذيلة فأول تاريخها من الطبيعة نفسها، فهي هي لا تتغير ولا تزال تظهر وتستسرّ.

لما زوج الإمام ابنته من ابن أبي وداعة، أخذها بنفسه إلیه في يوم زوّجها منه، ومشى بها في طريق حصاه عنده أفضل من الدر، وترابه أكرم من الذهب. طارت الحادثة في الناس، واستفاض لهم قول كثير: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾([24]) وقد قال جماعة منهم: تالله لئن انقطع الوحي، إن في معانيه بقية ما تزال تنزل على بعض القلوب التي تشبه في عظمتها قلوب الأنبياء؛ وما هذه الحادثة على الدنيا إلا في معنى سورة من السور قد انشقت لها السماء، ونزل بها جبريل يخفُق على أفئدة المؤمنين خفقة إيمان.

﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ ([25]). وقال أناس منهم: أما والله لو تهيأ لأحدنا أن يكون لصا يسرق أمير المؤمنين، أو ابن أمير المؤمنين، لركب رأسه في ذلك، ما يردّه عن السرقة شيء؛ فكيف بمن تهيأ له الصهر والحسب، وجاءه الغنى يطرق بابه، ما باله يردّ كل ذلك ويخزي ابنته برجل فقير تعيش في داره بأسوأ حال؛ وكيف تثقل همته وتبطؤ وتموت، إذا كان الدر والجوهر والذهب والخلافة، ثم ينبعث ويمضي لا يتلكأ عزمه، إذا كان العلم والفقر والدين والتقوى؟

وانتهى كلام الناس إلى الإمام العظيم، فلم يجئه إلا من الظن خفيًّا خفيًّا، كأنما هي أقوال حسبها ثقال عنه بعد خمسين وثلاثمائة وألف سنة "في زمننا هذا" حين يكون هو في معاني السماء، ويكون القائلون في معاني التراب النجس الذي نفضته على الشرق نعال الأوروبيين؟

 وكان إمامنا يفسر قوله تعالى:﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾([26]) .

قال الراوي: فكان فيما قاله الشيخ:

إذا هُدي المرء سبيله كانت السبل الأخرى في الحياة إما عداء له، وإما معارضة، وإما ردًّا، فهو منها في الأذى، أو في معنى الأذى، أو عُرْضة للأذى.

استنوق الجمل

قال الشاب: لا قِبَلَ لي بهذا التعب المعني الذي يسمونه "الزواج" فما هو إلا بيت ثقله على شيئين: على الأرض، وعلى نفسي؛ وامرأة همها في موضعين: في دارها، وفي قلبي؛ وما هو إلا أطفال يُلزمونني عمل الأيدي الكثيرة من حيث لا أملك إلا يدين اثنتين، وأتحمل فيهم رهقًا شديدًا كأنما أبنيهم بأيامي، وأجمع هموم رءوسهم كلها في رأس واحد هو رأسي أنا.

يولد كل منهم بمعدة تهضم لتوها وساعتها، ثم لا شيء معها من يد أو رجل أو عقل إلا هو عاجز لا يستقل، متخاذل لا يطيق ولا يقدر.

قال: وإذا كان أول الزواج أي: عسله وحلواه أنه امرأة تُذهب عزوبتي، فأنا وأمثإلی ما نزال في عسل وحلوى ولكل وقت زواج، ولكل عصر أفكار، وما أسخف الليإلی إذا هو ترادفت على ضرب واحد من أحلامها، فهذا يجعل النوم حكمًا بالسجن عشر ساعات!

قال: وإذا أردت أن تستكشف القصة فاعلم أننا -نحن العزاب- قوم كرجال الفن؛ رذيلتهم فنية، وفضيلتهم فنية، فتلك وهذه بسبيل؛ وكل شيء في الفن هو لموضعه من الفن لا من غيره؛ فإذا قلتَ: هذا خالٍ من الفضيلة، عار من الأدب؛ وعبت الفن لذلك، فما هو إلا كعيبك وجه المرأة الجميلة لأنه خال من لحية! هات الظلام وسواده، فإنه لون كالنور وإشراقه، لا بد من كليهما؛ إذ المعنى الفني إنما يكون في تناسب الأشياء لا في الأشياء ذاتها؛ ويد الفني كيد الغني؛ هذه لا يقع فيها الذهب إلا ليعدد ثم يتعدد؛ وتلك لا تقع فيها المرأة إلا لتتعدد ثم تتعدد؛ وفي كل دينار قوة جديدة، وفي كل امرأة فن جديد.

قال: ومذهبنا في الحياة أن نستمتع بها ضروبًا وأفانين؛ من أطاق لم يقتصر على نوعين، ومن قدر على نوعين لم يرض الواحد؛ ولو أن زوجة كانت من أشعة الكواكب أو من قطرات الندى، لثقل منها على حياتنا ما يثقل من الحديد والصَّوَّان؛ إذ هي لا تلد أشعة كواكب، ولا قطرات ندى؛ وحَسْب الجسد برأس واحد حِمْلًا.

 المجلد الثاني

الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام

كما تطلع الشمس بأنوارها فتفجر ينبوع الضوء المسمى النهار، يولد النبي فيوجد في الإنسانية ينبوع النور المسمى بالدين. وليس النهار إلا يقظة الحياة تحقق أعمالها، وليس الدين إلا يقظة النفس تحقق فضائلها.

والشمس خلقها الله حاملة طابعه الإلهي، في عملها للمادة تحول به وتغير، والنبي يرسله الله حاملا مثل ذلك الطابع في عمله تترقى فيه وتسمو.

ورعشات الضوء من الشمس هي قصة الهداية للكون في كلام من النور، وأشعة الوحي في النبي هي قصة الهداية لإنسان الكون نور من الكلام.

والعامل الإلهي العظيم يعمل في نظام النفس والأرض بأداتين متشابهتين: أجرام النور من الشموس والكواكب، وأجرام العقل من الرسل والأنبياء.

فليس النبي إنسانا من العظماء يقرأ تاريخه بالفكر معه المنطق، ومع المنطق الشك، ثم يدرس بكل ذلك على أصول الطبيعة البشرية العامة، ولكنه إنسان نجمي يقرأ بمثل "التلسكوب" في الدقة، معه العلم، ومع العلم الإيمان، ثم يدرس بكل ذلك على أصول طبيعته النورانية وحدها.

والحياة تنشئ علم التاريخ، ولكن هذه الطريقة في درس الأنبياء -صلوات الله عليهم- تجعل التاريخ هو ينشئ علم الحياة، فإنما النبي إشراق إلهي على الإنسانية، يقومها في فلكها الأخلاقي، ويجذبها إلى الكمال في نظام هو بعينه صورة لقانون الجاذبية في الكواكب.

 وما الشهادة للنبوة إلا أن تكون في نفس النبي أبلغ نفوس قومه، حتى لهو في طباعه وشمائله طبيعة قائمة وحدها، كأنها الوضع النفساني الدقيق الذي ينصب لتصحيح الوضع المغلوط للبشرية في عالم المادة وتنازع البقاء. وكأن الحقيقة السامية في هذا النبي تنادي الناس: أن قابلوا على هذا الأصل وصححوا ما اعترى أنفسكم من غلط الحياة وتحريف الإنسانية.ومن ثم فنبي البشرية كلها من بعث بالدين أعمالا مفصلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه بمصلحتها، فهو يعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي الثابت المتجدد المتغير تنظم به أحوال الطبيعة على قصد وهدى، وهذه هي حقيقة الإسلام في أخص معانيه، لا يغني عنه في ذلك دين آخر، ولا يؤدي تأديته في هذه الحاجة أدب ولا علم ولا فلسفة، كأنما هو نبع في الأرض لمعاني النور، بإزاء الشمس نبع النور في السماء.

حقيقة المسلم

لا يعرف التاريخ غير محمد صلى الله عليه وسلم رجلًا أفرغ الله وجوده في الوجود الإنساني كله؛ كما تنصب المادة في المادة، لتمتزج بها فتحولها، فتحدث منها الجديد، فإذا الإنسانية تتحول به وتنمو، وإذا هو صلى الله عليه وسلم وجود سار فيها فما تبرح هذه الإنسانية تنمو به وتتحول.

كان المعنى الآدمي في هذه الإنسانية كأنما وهن من طول الدهر عليه، يتحيفه ويمحوه ويتعاوره بالشر والمنكر؛ فابتعث الله تاريخ العقل بآدم جديد بدأت به الدنيا في تطورها الأعلى من حيث يرتفع الإنسان على ذاته، كما بدأت من حيث يوجد الإنسان في ذاته؛ فكانت الإنسانية دهرها بين اثنين: أحدهما فتح لها طريق المجيء من الجنة، والثاني فتح لها طريق العودة إلیها، كان في آدم سر وجود الإنسانية، وكان في محمد سر كمالها.

ولهذا سمي الدين "بالإسلام"؛ لأنه إسلام النفس إلى واجبها، أي إلى الحقيقة من الحياة الاجتماعية؛ كأن المسلم ينكر ذاته فيسلمها إلى الإنسانية تصرفها وتعتملها في كمالها ومعإلیها؛ فلا حظ له هو من نفسه يمسكها على شهواته ومنافعه، ولكن للإنسانية بها الحظ.

 بالانصراف إلى الصلاة وجمع النية عليها، يستشعر المسلم أنه قد حطم الحدود الأرضية المحيطة بنفسه من الزمان والمكان، وخرج منها إلى روحانية لا يحد فيها إلا بالله وحده.

وبالقيام في الصلاة، يحقق المسلم لذاته معنى إفراغ الفكر السامي على الجسم كله، ليمتزج بجلال الكون ووقاره، كأنه كائن منتصب مع الكائنات يسبح بحمده.

وحي الهجرة

إن التاريخ ليتكلم بلغة أوسع من ألفاظه إذا قرأه من يقرؤه على أنه بعض نواميس الوجود، صورت فيها النفس الإنسانية كيف اعتورت أغرضها، وكيف مدت في نسقها، وكيف تغلغلت في مسالكها، وما تأتي لها فجرت به مجراها، وما دفعها فانحدرت منه إلى مقارها، فهو ليس بكلام تستقبله تقرأ فيه، ولكنه أحوال من الوجود تعترضها فتغير عليك حسك بإلهامها وأحلامها، وتتناولها من ناحية فتتناولك من الأخرى؛ فإذا الكلمة من ورائها معنى، من ورائه طبيعة، من ورائها سبب وحكمة؛ وإذا كل حادثة فيها إنسانيتها وإلهيتها معا، وإذا الوجود في ذهنك كالساعة ترسم لك حد الثانية بخطرتين، وحد الدقيقة من عدد محدود من الثواني، وحد الساعة إلى حد اليوم؛ وإذا البيان في نفسك من كل هذه الحواشي، وإذا التاريخ فيا تقرؤه مفنن في ظاهره وباطنه يفيء عليك من ألفاظه ومعانيه بظلال هي صلتك أنت أيها الحي الموجود بأسرار ما كان موجودًا من قبل.

كذلك قرأت بالأمس تاريخ الهجرة النبوية في كتاب أبي جعفر الطبري لأكتب عنه هذه الكلمة، فلم أكن -علم الله- في كتاب ولا في حكاية، بل في عالم انبثق في نفسي مخلوقا تأما بأهله، وحوادث أهله، وأسرار أهله جميعًا، كما يرى المحب حبيبه، لا يكون الجميل في محل إلا امتلأ مكانه بعاشقه، فهو مكان من النفس، لا من الدنيا وحدها، وفيه الحياة كما هي في الوجود بمظهر المادة، وكما هي في الحب بمظهر الروح.

 ثم كان أول النمو في الإسلام بحر وعبد: أما الحر فأبو بكر، وأما العبد فبلال، ثم اتسق النمو قليلا قليلا ببطء الهموم في سيرها، وصبر الحر في تجلده؛ وكأن التاريخ واقف لا يتزحزح، ضيق لا يتسع، جامد لا ينمو؛ وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أخو الشمس، يطلع كلاهما وحده كل يوم. حتى إذا كانت الهجرة من بعد، فانتقل الرسول إلى المدينة، بدأت الدنيا تتقلقل، كأنما مر بقدمه على مركزها فحركها؛ وكانت خطواته في هجرته تخط في الأرض، ومعانيها تخط في التاريخ؛ وكانت المسافة بين مكة والمدينة، ومعناها بين المشرق والمغرب.

فلسفة قصة

ماتت خديجة الكبری رضٰي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم ومات عمه أبو طالب في عام واحد، في السنة العاشرة من النبوة، فعظمت المصيبة فيهما عليه، إذ كان عمه هذا يمنعه من أذى قريش، ويقوم دونه فلا يخلصون إلیه بمكروه؛ وكان أبو طالب من قريش كالعقيدة السياسية، هي بطبيعتها قوة نافذة على قوة القبيلة؛ فمن ثم كان هو وحده المشكلة النفسية المعقدة التي تعمل قريش جاهدة في حلها، وقامت المعركة الإسلامية الأولى بين إرادتهم وإرادته، وهم أمة تحكمهم الكلمة الاجتماعية التي تسير عنهم في القبائل؛ وتاريخهم ما يقال في الألسنة من معاني المدح والذم، فيخشون المقالة أكثر مما يخشون الغارة، وقد لا يبالون بالقتلى والجرحى منهم، ولكنهم يبالون بالكلمات المجروحة.

 فكان من لطيف صنع الله للإسلام، وعجيب تدبيره في حماية نبيه صلى الله عليه وسلم، وضع هذه القوة النفسية في أول تاريخ النبوة، تشتغل بها سخافات قريش، وتكون عملا لفراغهم الروحي، وتثير فيهم الإشكال السياسي الذي يعطل قانونهم الوحشي إلى أن يتم عمل الأسباب الخفية التي تكسر هذا القانون، فإن المصنع الإلهي لا يخرج أعماله التامة العظيمة إلا من أجزاء دقيقة.

أما خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في هذه المحنة قلبا مع قلبه العظيم، وكانت لنفسه كقوله "نعم" للكلمة الصادقة التي يقول لها كل الناس "لا"؛ وما زالت المرأة الكاملة المحبوبة هي التي تعطي الرجل ما نقص من معاني الحياة، وتلد له المسرات من عواطفها كما تلد من أحشائها فالوجود يعمل بها عملين عظيمين: أحدهما زيادة الحياة في الأجسام، والآخر إتمام نقصها في المعاني.

 قصة الإسراء والمعراج هي من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هذا النجم الإنساني العظيم؛ وهو النور المتجسد لهداية العالم في حيرة ظلماته النفسية؛ فإن سماء الإنسان تظلم وتضيء من داخله بأغراضه ومعانيه. والله -تعالى- قد خلق للعالم الأرضي شمسا واحدة تنيره وتحييه وتتقلب عليه بليله ونهاره، بيد أنه ترك لكل إنسان أن يصنع لنفسه شمس قلبه وغمامها وسحائبها وما تسفر به وما تظلم فيه. ولهذا سمي القرآن نورا لعمل آدابه في النفس، ووصف المؤمنون بأنهم ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ ([27])، وكان أثر الإيمان والتقوى في تعبير القرآن الكريم أن يجعل الله للمؤمنين نورًا يشمون به.

وقد حار المفسرون في حكمة ذكر "الليل" في آية "الإسراء" من قوله -تعالى-: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾([28]) . فإن السرى في لغة العرب لا يكون إلا ليلًا.

 والحكمة هي الإشارة إلى أن القصة قصة "النجم" الإنساني العظيم الذي تحول من إنسانيته إلى نوره السماوي في هذه المعجزة، ويتمم هذه العجيبة أن آيات "المعراج" لم تجئ إلا في سورة: "والنجم".

 ومن ثم كان الإنسان إذا سما درجة واحدة في ثبات قواه الروحية، سما بها درجات فوق الدنيا وما فيها، وسخرت له المعاني التي تسخر غيره من الناس، ونشأت له نواميس أخلاقية غير النواميس التي تتسلط بها الأهواء. ومتى وجد الشيء من الأشياء كانت طبائع وجوده هي نواميسه؛ فالنار مثلا إذا هي تضرمت أوجدت الإحراق فيما يحترق، فإن وضع فيها ما لا يحترق أبطل نواميسها وغلب عليها.

فحقيقة النبوة أنها قوة من الوجود في إنسان مختار جاءت تصلح الوجود الإنساني به لتقر في هذه الحيوانية المهذبة مثلها الأعلى، بدلالتها على طريقها النفسي مع طريقها الطبيعي، فيكون مع الانحطاط الرقي، ومع النقص الكمال، ومع حكم الغريزة التحكم في الغريزة، ومع الظلمة المادية الإشراق الروحاني.

 الإنسانية العليا :

من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم إنه كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت لا يذم منها شيئا، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تعدى الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها؛ وكان خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه ولا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، ولا يطوي عن أحد من الناس بشره، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق سواء؛ يحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف؛ وكان أشد الناس حياء، لا يثبت بصره في وجه أحد، له نور يعلوه كأن الشمس تجري في وجهه، لا يؤيس راجيه، ولا يخيب عافيه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول؛ أجود الناس بالخير.([29]).

صلى الله وسلم على صاحب هذه الصفات التي لا يجد الكمال الإنساني مذهبا عنها ولا عن شيء منها، ولا يجد النقص البشري مساغا إلیها ولا إلى شيء منها؛ ففيها المعنى التام للإنسانية، كما أن فيها المعنى التام للحق، ومن اجتماع هذين يكون فيها المعنى التام للإيمان.  هي صفات إنسانها العظيم، وقد اجتمعت له لتأخذ عنه الحياة إنسانيتها العإلیة؛ فهي بذلك من برهانات نبوته ورسالته.ولو جمعت كل أوصافه صلى الله عليه وسلم ونظمتها بعضها إلى بعض، واعتبرتها بأسرارها العلمية لرأيت منها كونا معنويا دقيقا قائما بهذا الإنسان الأعظم، كما يقوم هذاالكون الكبير بسننه وأصول الحكمة فيه، ولأيقنت أن هذا النبي الكريم إن هو إلا معجم نفسي حي ألفته الحكمة الإلهية بعلم من علمها، وقوة من قوتها، لتتخرج به الأمة التي تبدع العالم إبداعا جديدًا، وتنشئه النشأة المحفوظة له في أطوار كماله.

 حماسة الشعب

وحدثني باشا قال: لما رجع سعد باشا من أوروبا في سنة 1921، كانت الأمة في استقباله كأنها طائر مد جناحيه، لا خلاف لشيء منه على شيء منه، بل كله هو كله؛ وكانت المعارضة في الاستحالة يومئذ كاستحالة وجود رقعة في ريش الطائر.

على أن ثوب السياسة المصرية كثير الرقع دائما بالجديد والخلق، فرقعة من المعارضين، وأخرى من المتعنتين، وثالثة من المتخاذلين، ورابعة من المعادين، وخامسة وسادسة وسابعة من الحاسدين والمنافسين والمختلفين لشهوة الخلاف؛ ورقاع بعد ذلك مما نعلم وما لا نعلم، فإن من العجيب أن هذا الجو الذي لا يتقلب إلا بطيئا، يتقلب أهله بسرعة؛ وهذه الطبيعة التي لا تكاد تختلف، لا يكاد أهلها يتفقون.

ولكن سعدا "رحمة الله" رجع من أوروبا رجعة الكرامة لأمة كاملة، ففاز بأنه لم يخسر شيئا من الحق، وانتصر بأنه لم يهزم، ودل على ثباته بأنه لم يتزعزع، وذهب صولة ورجع صولة وعزيمة؛ فكان إيمان الشعب هو الذي يتلقاه، وكانت الثورة هي التي تحتفل به، وبطلت العلل كلها فلم يجد الاعتراض شيئا يعترض عليه، واتفقت الأسباب فاجتمعت الكلمة، وظهر سعد كأنه روح الأمة متمثلًا في قدرة، حاكما بقوة، متسلطا بيقين

المجلد الثالث

 السمو الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية

لما أردت أن أكتب هذا الفصل وهممت به، عرضت لي مسألة نظرت فيها أطلب جوابها، ثم قدرت أن يكون أبلغ فلاسفة البيان في أوربا لعهدنا هذا رجلًا يحسن العربية المبينة، وقد بلغ فيها مبلغ أئمتها علمًا وذوقًا، ودرَس تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم درْس الروح لأعمال الروح، وتفقه في شريعته فقْه الحكمة لأسرار الحكمة، واستوعب أحاديثه واعتبرها بفن النقد البياني الذي يبحث في خصائص الكلام عن خصائص النفس؛ وتمثلت أني لقيت هذا الرجل فسألته: ما هو الجمال الفني عندك في بلاغة  محمد صلى الله عليه وسلم .

فكلامه صلى الله عليه وسلم مجرى عمله: كله دين وتقوى وتعليم، وكله روحانية وقوة وحياة؛ وإنه يخيل إلی وقد أخذت بطهره وجماله أن من الفن العجيب أن يكون هذا الكلام صلاة وصيامًا في الألفاظ.

أما أسلوبه صلى الله عليه وسلم فأجد له في نفسي روح الشريعة ونظامها وعزيمتها، فليس له إلا قوة قوة أمر نافذ لا يختلف، وإن له مع ذلك نسقًا هادئًا هدوء اليقين، مبينًا بيان الحكمة، خالصًا خلوص السر، واقعًا من النفس المؤمنة موقع النعمة من شاكرها؛ وكيف لا يكون كذلك وهو أمر الروح العظيمة الموجهة بكلمات ربها ووحيه؛ ليتوجه بها العالم كأنه منه مكان المحور: دورته بنفسه هي دورته بنفسه وبما حوله، روح نبي مصلح رحيم، هو بإصلاحه ورحمته في الإنسانية، وهو بالنبوة فوقها، وهو بهذه وتلك في شمائله وطباعه مجموع إنساني عظيم لو شبه بشيء لقيل فيه: إنه كمجموع القارات الخمس لعمران الدنيا.

 ونرى في لفظ الحديث أن كل رجل من هؤلاء الذين مثلوا رواية الإنسانية الفاضلة في فصولها الثلاثة، لا يقول إنه فعل ما فعل من صالح أعماله:﴿إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾([30]) ، وقد تطابقوا جميعًا على هذه الكلمة، وهي من أدق ما في فلسفة الإنسانية في شعرها ذلك، فإن معناها أن الرجل في صالح عمله إنما كان مجاهدًا نفسه، يمنعها ما تحرص عليه من حظها أو لذتها أو منفعتها، أي منخلعًا من طبيعته الأرضية المنازعة لسواها، المنفردة بذاتها، متحققًا بالطبيعة السماوية التي لا يرحم الله عبدًا إلا بها، وهي رحمة الإنسان غيره، أي اندماجه باستطاعته وقوته، وإعطاؤه من ذات نفسه ومعاونته كف أذاه.

 وقد كتبنا في فلسفة الأدب وحقيقته، ومعانيه الإنسانية، وأن الأديب التام الأداة هو الإنسان الكوني، وغيره هو الإنسان فقط، وأن علم الأديب هو النفس الإنسانية بأسرارها المتجهة إلى الطبيعة، والطبيعة بأسرارها المتجهة إلى النفس؛ ولذلك فموضعه من الحياة موضع فكرة حدودها من كل نواحيها الأسرار -وأن الأديب مكلف بتصحيح النفس الإنسانية ونفي التزوير عنها، وإخلاصها مما يلتبس بها على تتابع الضرورات، ثم تصحيح الفكرة الإنسانية في الوجود، ونفي الوثنية عن هذه الفكرة، والسمو بها إلى فوق، ثم إلى فوق، ودائمًا إلى فوق([31]).

فالفن في هذه البلاغة هو في دقائقه أثر تلك الروح العليا بكل خصائصها العظيمة التي يحتاج إلیها الوجود الروحاني على هذه الأرض، ولذا ترى كلامه صلى الله عليه وسلم يخرج من حدود الزمان، فكل عصر واجد فيه ما يقال له، وهو بذلك نبوة لا تنقضي، وهو حي بالحياة ذاتها، وكأنما هو لون على وجه منها كما ترى البياض مثلًا هو اللون على وجه طائفة من الجنس البشري .

ثم إن الكلام في وصف الطبيعة والجمال والحب على طريقة الأسإلیب البيانية، إنما هو باب من الأحلام؛ إذ لا بد فيه من عيني شاعر، أو نظرة عاشق؛ وهنا نبي يوحى إلیه، فلا موضع للخيال في أمره، إلا ما كان تمثيلًا يراد به تقوية الشعور الإنساني بحقيقة ما في بعض ما يعرض من باب الإرشاد والموعظة۔

قرآن الفجر

يقول الرافعي :كنت في العاشرة من سني وقد جمعت القرآن كله حفظًا وجودة بأحكام القراءة؛ ونحن يومئذ في مدينة "دمنهور" عاصمة البحيرة؛ وكان أبي -رحمه الله- كبير القضاة الشرعيين في هذا الإقليم، ومن عادته أنه كان يعتكف كل سنة في أحد المساجد عشرة الأيام الأخيرة من شهر رمضان، يدخل المسجد فلا يبرحه إلا ليلة عيد الفطر بعد انقضاء الصوم؛ فهناك يتأمل ويتعبد ويتصل بمعناه الحق، وينظر إلى الزائل بمعنى الخالد، ويطل على الدنيا إطلال الواقف على الأيام السائرة ويغير الحياة في عمله وفكره، ويهجر تراب الأرض فلا يمشي عليه، وتراب المعاني الأرضية فلا يتعرض له، ويدخل في الزمن المتحرر من أكثر قيود النفس، ويستقر في المكان المملوء للجميع بفكرة واحدة لا تتغير؛ ثم لا يرى من الناس إلا هذا النوع المرطب الروح بالوضوء، المدعوّ إلى دخول المسجد بدعوة القوة السامية، المنحني في ركوعه؛ ليخضع لغير المعاني الذليلة، الساجد بين يدي ربه؛ ليدرك معنى الجلال الأعظم.

وما هي حكمة هذه الأمكنة التي تقام لعبادة الله؟ إنها أمكنة قائمة في الحياة، تشعر القلب البشري في نزاع الدنيا أنه في إنسان لا في بهيمة۔

لا أنسى أبدًا تلك الساعة. وقد انبعث في جو المسجد صوت غرد رخيم يشق سدفة الليل في مثل رنين الجرس تحت الأفق العإلی وهو يرتل هذه الآيات من آخر سورة النحل: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾([32]).

وكان هذا القارئ يملك صوته أتم ما يملك ذو الصوت المطرب؛ فكان يتصرف به أحلى مما يتصرف القمري وهو ينوح في أنغامه، وبلغ في التطريب كل مبلغ يقدر عليه القادر، حتى لا تفسر اللذة الموسيقية بأبدع مما فسرها هذا الصوت؛ وما كان إلا كالبلبل هزته الطبيعة بأسلوبها في جمال القمر، فاهتز يجاوبها بأسلوبه في جمال التغريد.

 جديد الإسلام: 1 رسالة الأزهر في القرن العشرين

"الأزهر" هذه هي الكلمة التي لا يقابلها في خيال الأمة المصرية إلا كلمة الهرم؛ وفي كلتا اللفظتين يكمن سر خفي من أسرار التاريخ التي تجعل بعض الكلمات ميراثًا عقليًّا للأمة، ينسي مادة اللغة فيها ولا يبقي منها إلا مادة النفس؛ إذ تكون هذه الكلمات تعبيرًا عن شيء ثابت ثبات الفكرة التي لا تتغير، مستقر في الروح القومية استقراره في الزمن، متجسم من معناه كأن الطبيعة قد أفردته بمادته دون ما يشاركه في هذه المادة؛ فالحجر في الهرم الأكبر يكاد يكون في العقل زمانًا لا حجرًا، وفنًّا لا جسمًا؛ والمكان في الأزهر يغيب فيه معنى المكان وينقلب إلى قوة عقلية ساحرة توجد في المنظور غير المنظور.

 والخلاصة أن أول رسالة الأزهر في القرن العشرين: اهتداء الأزهر إلى حقيقة موضعه في القرن العشرين: ﴿وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾([33]) .

 صعاليك الصحافة

يبين الرافعي صعاليك الصحافة ويقول :لما ظهر كتابي "وحي القلم" حملت منه إلى فضلاء كتابنا في دور الصحف والمجلات أهديه إلیهم؛ ليقرؤوه ويكتبوا عنه، وأنا رجل ليس في أكثر مما في، كالنجم يستحيل أن يكون فيه مستنقع؛ فما أعلم في طبيعتي موضعا للنفاق تتحول فيه البصلة إلى تفاحة، ولا مكانًا من الخوف تنقلب فيه التفاحة إلى بصلة، ولست أهدي من كتبي إلا إحدى هديتين: فإما التحية لمن أثق بأدبهم وكفايتهم وسلامة قلوبهم، وإما إنذار حرب لغير هؤلاء!

والقرآن نفسه قد أثبت اللهُ فيه أقوال من عابوه، ليدل بذلك على أن الحقيقة محتاجة إلى من ينكرها ويردها، كحاجتها إلى من يقربها ويقْبلها، فهي بأحدهما تثبت وجودها، وبالآخر تثبت قدرتها على الوجود والاستمرار.

إن الكاتب الذي لا يسأل نفسه ما يقال عني في التاريخ، هو كاتب الصحافة الحقيقي؛ لأن القروش هي القروش والتاريخ هو التاريخ؛ ومطبعة الصحيفة الناجحة هي بنت خالة مطبعة البنك الأهلي؛ ولا يتحقق نسب ما بينهما إلا في إخراج الورق الذي يصرف كله ولا يرد منه شيء!

الأدب والأديب

إذا اعتبرت الخيال في الذكاء الإنساني وأوليته دقة النظر وحسن التمييز، لم تجده في الحقيقة تقليدًا من النفس للألوهية بوسائل عاجزة منقطعة، قادرة على التصور والوهم بمقدار عجزها عن الإيجاد والتحقيق.

وهذه النفس البشرية الآتية من المجهول في أول حياتها، والراجعة إلیه آخر حياتها، والمسددة في طريقه مدة حياتها، لا يمكن أن يتقرر في خيالها أن الشيء الموجود قد انتهى بوجوه، ولا ترضى طبيعتها بما ينتهي؛ فهي لا تتعاطى الموجود فيما بينها وبين خيالها على أنه قد فرغ منه فما يبدأ، وتم فما يزاد، وخلد فلا يتحول؛ بل لا تزال تضرب ظنها وتصرف وهمها في كل ما تراه أو يتلجلج في خاطرها، فلا تبرح تتلمح في كل وجود غيبًا، وتكشف من الغامض وتزيد في غموضه، وتجري دأبًا على مجاريها الخيإلیة التي توثق صلتها بالمجهول؛ فمن ثم لا بد في أمرها مع الموجود مما لا وجود له، تتعلق به وتسكن إلیه؛ وعلى ذلك لا بد في كل شيء-مع المعاني التي له في الحق- من المعاني التي له في الخيال؛ وها هنا موضع الأدب والبيان في طبيعة النفس الإنسانية، فكلاهما طبيعي فيها كما ترى.([34])

مشاركة العلماء للأدباء توجب أن يتميز الأديب بالأسلوب البياني؛ إذ هو كالطابع على العمل الفني، وكالشهادة من الحياة المعنوية لهذا الإنسان الموهوب الذي جاءت من طريقه، ثم لأن الأسلوب هو تخصيص لنوع من الذوق وطريقة من الإدراك، كأن الجمال يقول بالأسلوب

وفضل ما بين العالم والأديب، أن العالم فكرة، ولكن الأديب فكرة وأسلوبها؛ فالعلماء هم أعمال متصلة متشابهة يشار إلیهم جملة واحدة، على حين يقال في كل أديب عبقري: هذا هو، هذا وحده؛ وعلم الأديب هو النفس الإنسانية بأسرارها المتجهة إلى الطبيعة، والطبيعة بأسرارها المتجهة إلى النفس؛ ولذلك فموضع الأديب من الحياة موضع فكرة حدودها من كل نواحيها الأسرار.

أجد أسلوب الكاتب راقيا جدا إلى جانب مضمونه الممتع والغني، إن لم أقل أن كتاباته لها روح تسري من القلب إلى القلب وتقارع هذا الواقع المفتون لتنير الدرب وتجاهد من أجل رسالة سامية وهي إحياء الإيمان. 

وأرى مقالاته تنبئ عن طينة الكاتب المؤمنة والراسخة الإيمان، المتبصرة بأحوال من يحيطون بها، تحمل همهم وتبحث لهم عن الملاذ دنيا وآخرة.  

 

 

الفصل الثالث: تحت رأية القران

كتاب "تحت راية القرآن - المعركة بين القديم والجديد" هى مجموعة من مقالات الأدب العربى التى يرد فيها الكاتب "مصطفى صادق الرافعى" على ما جاء فى كتاب "فى الشعر الجاهلى" لـ"طه حسين" من النقد والجدال مما تسبب فى اتهام الكثيرين لطه حسين بالكفر والزندقة ، وفى هذا الكتاب يبرز "الرافعى" بعض المغالطات التى ذكرها طه حسين فى كتابه مرتكزا على ذخيرته من الثقافة الإسلامية خاصة آيات القرآن الكريم ، فكان دفاعه تحت راية القرآن.

" المعركة بين القديم والجديد "رد على كتاب (في الشعر الجاهلي) لطه حسين وإسقاط البدعة الجديدة التي يريد دعاتها تجديد الدين .

إذن الكتاب وقفه –كما يقول- على تبيان غلطات المجددين الذي يريدون بأغراضهم وأهوائهم أن يبتلوا الناس في دينهم وأخلاقهم ولغتهم، الكتاب ضمّ سلسلة مقالاته التي نشرت بمجلة الهلال والزهراء والبيان وجريدة السياسة ومن ثم مقالات الأدب العربي في الجامعةكما يتخلل الكتاب مقالات لشكيب أرسلان وغيره ومقتبس من جريدة الأهرام وبعض وقائع الجلسات التي دارت في مجلس النواب حول قضية طه حسين .وأكثر فصول الكتاب إثارة ، الفصلان اللذان تحدث فيهما بتفصيل عن قضية الكتاب الرئيسة وهما: الفصل الذي أورد الرافعي فيه نص خطاب لجنة العلماء إلى شيخ الأزهر والذي حذرت فيه من تدريس كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي) في الجامعة وطالبت بوضع حدٍّ للفوضى الإلحادية الواردة فيه .فهذا كتاب جمع محاسن الأدب، ودقة البحث، وهيبة الغيرة على الدين والخلق. يأخذك في ركابه، فتنتقل بين ظلال هذه الثلاثة، منبهرا بجمال الأولى، مذعنا لإتقان الثانية، مطمئنا إلى سلامة القصد والسبيل في الثالثة.ليس هذا كتابا يتغنى بجمال الطبيعة، أو يصدح بتغاريد الحب، أو ينشد حداء للعاشقين، ولكنه مع ذلك آية في البلاغة، وغاية في نصاعة اللفظ، ورقة المعاني.

تصريح أساليب الفصاحة القرانية والحديث النبوية

يصرح للرافعي – رحمه الله – بأنه لو ترك في أسلوبه الجملة القرآنية والحديث الشريف لكان أجدى عليه، ولصار في الأدب مذهبا وحده. وهل هذا إلا صريح الهدم لأسإلیب الفصاحة، بحجة التجديد فيها؟ وكيف يكون التجديد في الأسلوب بقطع الوشيجة بأزكى أسلوب وأحلاه وأرفعه في مدارج الجمال۔

ذاك الدعي نفسه، يخرج مكنون صدره في كتابه القذر، فيصرح بإنكار ما لا ينكره إلا كافر بالقرآن العظيم، ويعلن ضرورة التجرد من الدين عند البحث العلمي، ولا يدع شيئا من مقدسات المسلمين، إلا تعرض لها برأيه الفائل، وفكره المريض، تشكيكا بلا دليل، وتمردا بشبهة الباطل على سلطة الحق المبين.

ثم إن هذا الهدم، لا يأتي بعده شيء من البناء، ولو أن يكون كوخا من قصب، يعوض به هؤلاء تلك القصور المنيفة التي يسعون إلى جعلها خرابا يبابا. ولذا يخاطب الرافعي هؤلاء الأدعياء فيقول:

’’لقد سئمت نفوسنا هذه الدعاوي الفارغة فاعملوا ثم سموا  عملكم ،وصيدوا الدب ثم بيعوا للناس جلده ،فلعلكم وأنتم تبيعون فروة دب لا تحصلون الا علي جلدة هرة‘‘۔([35])

حتى لقد بلغ الضعف العلمي بتلك الطائفة ومقدمها أستاذ الجامعة، أنهم إذ ينكرون الأسإلیب القديمة في التعبير والبيان، لا يأتون ببديل من الأسلوب الجديد، غير الطنطنة والتكرار، وجمود القريحة، وتبلد الحس.

رأي الرافعي عن كتابه تحت رأية القران

’’وأشهد ما رأيتُ قط كاتبا واحدا من أهل ”المذهب الجديد” يحسن شيئا من هذا الأمر، ولو هو أحسنه لانكشف له من إحسانه ما لا يبقي عنده شكا في إبطال هذا المذهب وتوهيته، ولذا تراهم يعتلون لمذهبهم الجديد بالفن والمنطق والفكر وبكل شيء إلا الفصاحة، وإذا فصحوا جاؤوا بالكام الفج الثقيل، والمجازات المستوخمة، والاستعارات الباردة، والتشبيهات المجنونة، والعبارات الطويلة المضطربة التي تقع من النفس كما تقع الكرة المنفوخة من الأرض لا تزال تنبو عن موضع إلى موضع حتى تهمد !‘‘.([36])

وقد عرف الرافعي – رحمه الله – من طه حسين ذلك الضعف في ملكة التعبير، والنضوب في ملكة الكتابة، فاستهزأ ما شاء، وتهكم بالرجل وأسلوبه في الشعر والنثر، حتى لم يُبقِ في كيانه موضع ذرة لم يملأه بدواعي الخجل، لو أن الخجل يعرف إلى ذلك المفتون سبيلا.

فهو ينقل مثلا قول طه في بعض ما كتب في تإلیف تحت رأية القران:’’نعم قصة المعلمين، فللمعلمين قصة وللمعلمين قضية، وكنا نحب ألا تكون للمعلمين قصة وألا تكون للمعلمين قضية، لأننا نربأ بمقام المعلمين عن أن تكون لهم قصة أو قضية، ولكن أراد الله ولا مرد لما أراد الله أن يتورط المعلمون في قصة، وأن يتورط المعلمون في قضية، ليست قضيتهم أمام المحاكم وإن كانت أوشكت في يوم من الأيام أن تصل إلى المحاكم، وليست قصتهم مفزعة مهلعة (كذا كذا) وإن كانت أوشكت في يوم من الأيام أن تكون مفزعة مهلعة‘‘.([37])

ولا يترك الرافعي فرصة تمر دون أن يذكر القارئ بأن طه حسين لا يساوي في ميزان البلاغة شيئا، إن هو إلا التكرار الممل، والتفاصح المخزي، والتعالم المقيت. ويقول له:’’على أني لو أردتُ أن آخذ معك في كتابتي هذا المأخذ لجعلتك تتلوى من الكلام المؤلم على مثل أسنان الإبر، ولاستقبلتك بما لا تدري معه أين تذهب ولا كيف تتوارى، كالإعصار الذي يأخذ عليك الجهات الأربع من آفاقها، أفأنت تقوم لي في باب الاستعارة والمجاز والتشبيه؟‘‘.([38])

أما بالنسبة إلى الرافعي – عليه رحمة الله – لم يجمجم ولم يداهن، ولم يتبع طرائق السياسيين في قول بعض ما يرون، وإخفاء أضعاف ذلك، حرصا على وحدة موهومة، أو مودة مزعومة. بل أعلن برأيه في هؤلاء القوم صراحةً في مواضع متفرقة من كتابه، وأظهر كفرهم وزندقتهم، وأنهم يؤولون في رأيهم إلى إنكار الدين، والتفصي من الأحكام الإلهية.

وما أجمل قوله:

’’ولأقل لك في صراحة إن مساجد القاهرة ترى ألف سائح كل سنة ولا ترى في السنة كلها واحدا من أهل الجديد، فهذا هو مرد تلك النزعة‘‘([39]).

وينكر على هؤلاء القوم سوء أدبهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول الرافعي:

’’وأما رأيه في النبي صلى الله عليه وسلم فمن أعجب ما عجبنا له أنه ما من عالم أو كاتب مسلم يذكره صلى الله عليه وسلم إلا صلى عليه أو وضع رمز الصيغة ولو هذا الحرف   وترى كتاب المسيحية يأخذون بهذا الأدب في كتبهم العربية، لأن المسلمين يقرأونها؛ أما أستاذ الجامعة فكأنه لا يتولى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحس عظمته ولا أثره، فقد ذكره في كتابه مرارا تفوت العد فلم يتأدب معه ولا مرة واحدة، فلا بعقيدة المسلمين أخذ، ولا بمجاملة المسيحيين اقتدى، بل طريقته هي طريقة المبشرين بعينها‘‘([40]).

والرافعي في كتابه هذا، وفي كتابه الآخر الذي أرخ فيه لآداب العرب، يظهر من سعة الاطلاع، وطول الباع، في علوم اللغة والأدب، ما يقسر القارئ على الإذعان لرأيه، والتسليم لعصارات فكره.

لكأن الرجل حين يتكلم في مسألة من دقائق اللغة، يقرأ في كتاب مفتوح، جامع لمسائل اللغة، ومباحثها العظيمة، يأخذ ما يشاء، ويذر ما يشاء. ولكأنه حين يبحث منهجا أدبيا، أو طريقة من طرائق الشعر، قد تسنم قنة جبل شاهق، يطل على آداب العربية كلها، فهو يحكم عن علم، ويشهد عن معرفة دقيقة شاملة.

ويغذي هذه الإحاطةَ المعرفية الشاملة، عمق في التصور الفكري، ورسوخ في الحكمة الفلسفية، يصحبهما شدة نزع في توليد الأفكار، واستقصاء حقائق المعاني إلى الغاية التي ما بعدها غاية.

وللرافعي – رحمه الله – أسإلیب في السخرية والتهكم، تذكرني في بعض المواضع بابن الرومي في سخريته اللاذعة، التي يستغرق بها أهاجيه، مع كثير من الإقذاع والفحش. أما الرافعي، فسخريته سامية رفيعة، لكنها حادة كأنياب القرش، ما تترك من الجسد الذي تخترقه، سوى لحم ممزع، على وضم قاني اللون.كذا تصورتُ المسكين طاحين عندما ينشب فيه الرافعي أظافر سخريته !
ومن أجمل ما يستعمله الرافعي – رحمه الله – في أسلوبه إيضاحا للفكرة، وتثبيتا لجذورها في نفس القارئ، ضرب الأمثال. فلا تكاد تخلو فكرة مستحدثة يعرضها للقارئ من مثل يجعله بإزائها، كالصورة التي يستند إلیها المعلم في شرح نص من نصوص اللغة لتلامذته.

وقد بلغ الرافعي الغاية في هذه الأمثال المضروبة، في ما يسميه نسخة قديمة له من كتاب (كليلة ودمنة)، يرجع إلیها بين الفينة والأخرى، فيستخرج منها مثلا، بل أمثالا، يضربها لما هو بصدد نقده من الجامعة، ومديرها، وأستاذ الأدب فيها.

ومن أمثلة ذلك، أن الرافعي يتكلف السجع في بعض ما يكتبه وهو نادر إذا قيس بغيره – ثم لا يكون إلا سجعا رائقا، ليس فيه برودة الصنعة، ولا سماجة المعالجة اللفظية. وهذه علامة الكاتب البليغ، الذي بلغ في الكتابة مبلغ الإتقان، بما هو قريب من الكمال. والرافعي الفيلسوف الحكيم، والأديب الناقد، له في كتابه هذا آراء تستحق أن تتناول بالبحث والتمحيص، وفاقا أو خلافا. فمن ذلك رأيه في أن تعلم اللغات الأجنبية، وإلقاء العلوم الحديثة بها، أولى من التعريب. يقول رحمه الله:

’’فإن الزمن الذي تعرب فيه الكتب أو تمصر ثم تطبع وتنشر ثم تقرأ وتدرس لا يذهب باطلا إذا هو ذهب في تعليم لغة أجنبية من لغات العلوم والفنون محققة وتربح معها فضلا كبيرا، وأن تربح إلى لغتها لغة أخرى برمتها وتجمع إلیها آدابها وفوائدها، وهذا ما لا يتيسر بعضه إذا مصرنا العربية لتلك الغاية التي زعموا وما يطلبون بها من الكفاية والإصلاح‘‘([41]).

وهذه فكرة جديرة بالتأمل، والرافعي لم يزد على أن أشار إلیها إشارة باهتة، ولا أدري إن كان قد بسط القول فيها في موضع آخر من كتبه.ومن ذلك أن له في عمر بن أبي ربيعة رأيا، حريا بالتدبر، والمقارنة بالذي قاله غيره من أهل النقد الأدبي. يقول – رحمه الله –:’’ وإني مع ذلك لا أرى أثقل ولا أبرد ولا أسمج من شعر ابن أبي ربيعة هذا حين يفضح النساء ويقول في شعره: قلت لها وقالت لي، وكان مني كذا وكان منها كذا. وما هو عندي بفن؛ بل خلق سافل وطبع غوي ونفس عاهرة، بل هو فن هجو النساء إذ كان ابن أبي ربيعة لا يحسن مدح رجل ولا هجوه، فسقط من هذه الناحية ليرتفع من الناحية التي تقابلها في النساء، فكأنه ارتفع بقوتين؛ ثم أراد الرجل أن يسير شعر في الأفواه ولا أسير من أخبار النساء وأحاديثهن، فهذا هذا.([42])

وتعجبني غضبة الرافعي – رحمه الله – على من يقول في عصره: (لك مذهبك ولي مذهبي، ولك لغتك ولي لغتي)، فيقول لهم:’’فمتى كنت يا فتى صاحب اللغة وواضعها ومنزل أصولها ومخرج فروعها وضابط قواعدها ومطلق شواذها؟ ومن سلم لك بهذا حتى يسلم لك حق التصرف ”كما يتصرف المالك في ملكه”، وحتى يكون لك من هذا حق الإيجاد، ومن الإيجاد ما تسميه أنت مذهبك ولغتك‘‘([43])

لكأن هذا الألمعي يخاطب أقواما في عصرنا هذا، يتخذون اللغة مرتعا مستباحا لأفكارهم التي يسمونها تجديدا. وهل يكون تجديد بغير ضوابط، تكون له كالصوى التي يهتدى بها في الطريق؟ وهل التجديد بغيرها إلا كالجواد الجموح الذي ليست له أرسان تكبحه وتخفف من غلوائه۔ وفي مثلهم يقول الرافعي:صارت الفصحى مرتعا مستباحا = كل غر يرعى به مُرتاحا قد تولى الإفساد في لغة القر = آنِ من حيث يدعي الإصلاحا يفسد اللفظ والمعاني ! إلیستْ = للكلام الأبدانَ والأرواحا؟وللمؤلف كلمات نافعة عن العلاقة بين الدين والعلم ([44])

الفصل الرابع: أوراق الورد

عندما أصدر "مصطفى صادق الرافعي" أوراق الورد قال: إنه لون جديد من أدب الحب في الأدب العربي لم يكتب من قبل، وعرض في مقدمة مطولة الفن رسائل الحب في الأدب العربي خلص منها إلى أنه استحدث فنا جديدًا في الأدب العربي بكتابه هذا.

وقد واجه الرافعي مساجلات متعددة بالنسبة لأسلوبه وفنون كتاباته وكان هذا الكتاب فرصة جديدة لمعارك حول الأسلوب الجديد في الأدب العربي المعاصر ([45]). 

"وضعنا كتابنا "أوراق الورد" في نوع من الترسل لم يكن منه شيء في الأدب العربي على الطريقة التي كتبناه بها، في المعاني التي أفردناه لها؛ وهو رسائل غرامية تطارحها شاعر فيلسوف وشاعرة فيلسوفة على ما بيناه في مقدمة الكتاب. وكانت قد ضاعت "ورقة ورد" وهي رسالة كتبها العاشق إلى صديق له، يصف من أمره وأمر صاحبته، ويصور له فيها سحر الحب كما لمسه وكما تركه. وقد عثرنا عليها بعد طبع الكتاب، فرأينا ألا ننفرد بها، وهي هذه:"

كانت لها نفس شاعرة، من هذه النفوس العجيبة التي تأخذ الضدين بمعنى واحد أحيانًا؛ فيسرها مرة أن تحزنها وتستدعي غضبها، ويحزنها مرة أن تسرها وتبلغ رضاها، كأن ليس في السرور ولا في الحزن معانٍ من الأشياء ولكن من نفسها ومشيئتها. وكان خيالها مشبوبًا، يلقي في كل شيء لمعان النور وانطفاءه؛ فالدنيا في خيالها كالسماء التي ألبسها الليل، مُلئت بأشيائها مبعثرة مضيئة خافتة كالنجوم.ولها شعور دقيق، يجعلها أحيانًا من بلاغة حسها وإرهافه كأن فيها أكثر من عقلها؛ ويجعلها في بعض الأحيان من دقة هذا الحس واهتياجه كأنها بغير عقل.

أوراق الورد

ديوان رسائل الحب تطارحها الرافعي مع حبائبه ، وكان العلمل الحاسم في دعوي التجديد التي لهج بها عصره ، وتوزعتها الأقلام مذاهب واراء وكانت معظم هذه الرسائل قد نشرت منجمة في الصحف والمجلات وان كان الجد في أعداده ديوانا لرسائل الحب يكون كتابا في فلسفة الجمال ، ومنعطفا للكتابة العربية التي تنطلق مع العصر تتقدم صفوف اللغات ، و تعجز شانئيها من المستشرقين والشعوبين القدامي والجدد ، هو من أسني المطالب وأسمي الأهداف في تإلیفه قدم له بمقدمة تاريخية بليغة ،استقصي فيها ما عرف لأدباء العربية من تإلیف أو تصنيف في غير الشعر ، من رسائل الحب ، فما وجد غير نتف ومستظرف لا تبلغ أن تسمي رسائل  وان حفل تاريخ الأدب برسائل الديوان والأخوان والوجدان حتي قال :’’أنت تري أن الأدب العربي قد انطوي علي محجوبة من هذا الفن بقيت في الغيب إلی عهدنا ، ونرجو من فضل الله أن تكون كتبنا الثلاثة قد أظهرتها ، واستعلنت بها ، وأن تقول  العربية اذا توصفوا كتب هذا الباب  في بيان اللغات الأخري :‘‘([46]) ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾([47])

 وقد حاول أن يكتب شيئا من تاريخ حبه ، فكتب في الحب نفسه ،والصفات السامية فيه ، ورأي رأيه ،ثم ضم جناحيه علي رسائل في حقيقة الجمال وزجاجة العطر الهدية حتي اذا وافته برسمها وطارت بينهما الرسائل في وسائلها من البريد ، والمقالة ، والحديث ،و فضول القول هنا و هناك ، تكامل لديه هذا الديوان الفريد من أدب الرسائل ’’أوراق الورد‘‘([48])

قول ابراھيم المصري عن الثقافةٰ العربية

واعترف ابراهيم المصري أنه أقرب أدباء الثقافة العربية إلی روح العصر الحديث وقال :’’ان في أسلوبه عذوبة ، وله نصوع، وفيه لمحات من الشعر الوجداني الصادق‘‘، ثم بقولة للأديب الألماني ’’الفريد كبير‘‘ يقول فيها : ’’الأدب الصحيح يتخيل الحقائق لا الأوها ،اذ قوة الخيال من قوة الحقيقة، وان الخيال بلا حقيقة ضرب من الهذيان‘‘([49])

 أما ’’أوراق الورد‘‘فلعل العمر الذي امتد به الكتابة والفن ، وما سبقه من معالجة ’’اخوته‘‘قد جعل له الامتياز الصحة، ووفر له العافية وقد كان يكتبه وينشره منجما مذ وقع له ذلك الحادث الغريب مع ’’فلانة ‘‘أو كما قال العريان:’’تلك يستمد من لينها و سماحتها معاني الحب التي تملا النفس بأفراح الحياة ، وهذه يستوحيها معاني الكبرياء ‘‘والصد والقطيعة ،وذكريات الحب الذي أشرق في خواطره بالشعر ، وأفعم قلبه بالألم ‘‘([50])

يضاف مصطفي نعمان البدري إلی ذلك أن دعوة الرافعي إلی السمو بهذه العاطفة الانسانية الكريمة ، والتحول بالفكر الاسلامي إلی صفة فقه الحياة نفسها في هذا الطور ، واستعلانها مبدأ ووسيلة لأسني المقاصد وأعلي الغايات لهوالبيان  ’’ما شيوع الكتابة في الحب الفاسق الا تحويل النساء التي يشيع فيها إلی بغايا‘‘([51])

كا ن اوراق الورد  ما يزال مجهولا عند أكثر قراء العربية وان كان في مكاتبهم ، لأن القارئ الذي يلذه أوراق الورد ما زال يتعلم في المدرسة كيف يقرأ ليستفيد ويضم فكرا إلی فكرة لا ليتسلي ويهرب من  فكره ! لأن العربية ليس لها قرّاء ([52])

 



([1])     رسائل الرافعی ص127

([2])     شوقي ضيف:أحمد شوقي عبد السلام، الأدب العربي المعاصر في مصرص243،دار المعارف ،الطبعة: الثالثة عشرة ۔

([3])      الحجر ،9

([4])     مصطفى مسلم، مباحث في إعجاز القرآن ص 99،دار القلم – دمشق،الطبعة الثالثة، 1426 هـ -   2005 م۔

([5])      المقال وتطوره في الأدب المعاصر ،ص 319

([6])     القيامة ، اية رقم 18

([7])      ال عمران 110

([8])     النحل 64

([9])     المؤمنون 12،13،14

([10])   تاریخ اداب العرب2/97

([11])   البقرة 23،24

([12])   يسين 69

([13])   يسين،69

([14])   وحی القلم 1/ 43

([15])   وحی القلم 1/ 229۔۔231

([16])   وحی القلم 2/ 89

([17])   المصدر السابق ص 3/25-26

([18])   صحيح مسلم (7028)

 

([19])   حياة الرافعي ،ص 27

([20])   وحی القلم ،ص 12،13

([21])   الروم: 50

([22])   يوسف 23،24

([23])   النساء: 1

([24])   التوبة: 124

([25])   التوبة: 125

([26])   إبراهيم: 12

([27])   الحديد: 12

([28])   الإسراء: 1

([29])   حياة الرافعي ص 241

([30])   البقرة: 272

([31])   المقتطف شهر يوليو سنة 1932 ، حياة الرافعي ص169، 234

([32])   النحل، 125۔۔۔۔128

([33])   هود:120

([34])   حياة الرافعي ص 234

 

([35])    تحت رأية القران ص( ) ([35])

([36])   تحت رأية القران ص 17

([37])   تحت رأية القران ص 81

([38])   تحت رأية القران ص 86

([39])   تحت رأية القران ص 52

([40])    تحت رأية القران ص164

([41])   تحت رأية القران ص 48

([42])   تحت رأية القران ص 228

([43])   تحت رأية القران ص 13-14

([44])   تحت رأية القران ص 272

([45])   المعارك الادبية 388

([46])   الرافعي الكاتب بين المحافظة والتجديد ص 398۔

([47])   سورة الحاقة ،الایة 19۔

([48])   حياة الرافعي ص 104۔

([49])   الرافعی الکاتب بین المحافة والتجديد ص400

([50])   حياة الرافعي ص 115

([51])   الرفعي الكاتب بين المحافظة والتجدید ص 404

([52])   حياة الرافعي ص 145

Loading...
Table of Contents of Book
ID Chapters/Headings Author(s) Pages Info
ID Chapters/Headings Author(s) Pages Info
Similar Books
Loading...
Similar Chapters
Loading...
Similar Thesis
Loading...

Similar News

Loading...
Similar Articles
Loading...
Similar Article Headings
Loading...